.. وهذه أسباب أخرى
لا أسوأ من الجوع إلا عدم الشبع.. ونحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع..!
كذلك هو تناول ظاهرة من أحد أطرافها بخوف وخجل وتوجس.. أو الحذر من تجاوز خطوط حمراء خلال الحديث عنها.. تدور حول الحمى.. تدور حتى تصاب بالصداع والغثيان..
أظنني بكلامي قبل أيام عن نهاية الفن الشعبي خشيت القفز من مربع إلى آخر دون الوصول إلى ملامسة الجرح الدامي.. أظنني صرت مثل طبيب الأسنان الفاشل الذي يخلع الضرس السليم ويترك المصاب بالتسوس.. فينشغل المريض بالألم.. نجحت العملية لكن المريض مات..!!.
أوردت أسبابًا سريعة أدت إلى وصول الفن الشعبي ورموزه وعمالقته إلى حدود المنتهى.. لم يعد لهم قيمة اعتبارية يتكئون عليها بين أندادهم أو أضدادهم في الفنون الأخرى..
تساقطت وتناثرت الأسباب العديدة من رأسي وخيالي.. حاولت ألملم نفسي وأرسم طريقًا للعودة متى شئت.. تبعثرت الأفكار والرؤى وتفلتت كما تتفلت اللحظات السعيدة النادرة في حياة التعساء المكتوب عليهم العيش وسط الأحزان والكآبة والأسى والنكاد..
طرحت السؤال وتركت الإجابة في جيبي.. ومحمود ياسين لعب دور البطولة في فيلم مصري قديم كتبه إحسان عبدالقدوس تحت عنوان "الرصاصة لا تزال في جيبي".. الاسم والقصة والفكرة أكبر بكثير من السيناريو.. أصبت بذات الحالة.. كتبت عن الأسباب التي أدت إلى انهيار الفن الشعبي في مصر والخليج والسعودية.
تكلمت طويلًا... تشعبت في دهاليز القضية.. أنهيت المقال.. وتركت الإجابة الصحيحة في جيبي على طريقة رصاصة محمود ياسين..!!.
قلت إن المزاج الاجتماعي الذي تغير وتطور هو من أزاح الشعبيين عن الصورة.. هذا صحيح.. قلت إن الشعراء والملحنين المبدعين لا يتعاونون معهم.. هذا أيضًا صحيح لكنه ليس كل شيء.. أعتقد أن السبب الفعلي والجوهري والحقيقي هو تاريخ الفنانين الملطخ باللعب في ساحة مظلمة كالنفق المهجور في الليل العتيم.. أيضًا كانوا لا يتناهون عن غناء كلمات تخدش الحياء وتخدش الذوق وتخدش الحد الأدنى من الرزانة والأدب والاحتشام.. كلمات لا يمكن أن تأتي بها دليلًا على ما تقول.. وليس يصح في الأذهان شيء، إذا احتاج إلى دليل كما قال السيد الفاضل أبو الطيب المتنبي..!!.
أما السبب الذي لدي استعداد القتال على صحته وصوابه وقوامه، إنما هو متمثل بكامل أناقته بأن معشر الشعبيين انتهجوا الترويج للحب العنيف البعيد عن الرومانسية اللذيذة، كما تتباعد وتتقاطع خطى المسافرين في صالات القدوم والمغادرة.. أغلب أغانيهم تدعو إلى القطيعة والتصادم والمرارة والرحيل.. أغلب أغانيهم أسيرة أجواء الجفاء والعداوة والهجران.. لو لم يغنِّ فهد بن سعيد الملقب بوحيد الجزيرة إلا "خلاص من حبكم يا زين عزلنا" لكفته، ليكون أحد أبرز مطربي جيل كان الظانون يجزمون بأنهم سيسيطرون على أسماع الناس عشرات السنين..
الرومانسية هي تلك الأجواء الغرامية التي تعكس لذة العشق والوله والهيام، لكن الشعبيين حولوها إلى مناحة وأنين ودموع لا تتوقف، ومشاهد جعلت الحب كله حربًا ناعمة ليس فيها منتصر..
هناك أيضًا أسباب أخرى.. أسباب كثيرة ومتعددة أجهل تفاصيلها.. أسباب كتبت الفصل الأخير وأسدلت الستائر وقالت للناس.. وداعًا..
انتهى الفن الشعبي.. وأنا انتهيت من أسباب أستطيع قولها والبوح بها ولي أسبابي..
إذا كان عندك أنت أسباب أخرى فاحتفظ بها لنفسك، فليس كل ما يعلم يقال كما تقول حكمة إنجليزية سبقت الفن الشعبي بمئات السنين..