شعبولا هو السبب
فعلياً وعملياً ونظرياً وواقعياً وطربياً ومحلياً ودولياً انتهى ما يسمى بالفن الشعبي.. صار من مخلفات التاريخ وأنقاض الماضي وبقايا تلك الأزمنة التي لا تعود.. في منتصف الثمانينات وصل إلى قمة مجده وسنام نهضته وهامة سموه ورفعته وعلوه.. طار كما ذلك الطير الذي قال عنه الشافعي ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.. وللأسف لم يكن هناك دراسة أو بحث أو تحليل لتسليط الضوء على ما حدث.. انهار الفن الشعبي المصري، وعلى ذات الخطى وذات الطريقة وذات الأسلوب مشى وسار ذات الفن في الخليج والسعودية.
مثل أحمد عدوية الواجهة المؤثرة للحالة المصرية وظل رقماً فعالاً وهاماً وكبيراً حتى تعرضه لحادثة كادت تودي بحياته غاب على ضوئها قرابة العشر سنوات بشكل كامل ثم حاول العودة وقاتل بشراسة لكن فات الميعاد كما تقول السيدة أم كلثوم.. لم يعد عدوية كما كان وانسحب حينما تيقن أن ستائر المسرح اسدلت عن صوته وتاريخه فأكتفى بتسجيل حضور مرتبك بين حين وآخر في برامج تلفزيونية تستضيفه مجاملة لتلك الليالي الخوالي..
بغياب عدوية استغل حسن الأسمر الفرصة والأرض الخاوية على عروشها وحقق نجاحات واضحة، لكنه أرد أن يكون فناناً شعبياً وممثلاً بطلاً على شاشات السينما فضيع المشيتين وصار مثل "معايد القريتين".. حكيم جاء مقلداً لعدوية لا أكثر ولا أقل والبضاعة المقلدة تستمر طويلاً في الأسواق لكنها لا تحصل على قناعة المتسوقين مهما حققت من الأرباح.. الضربة القاضية المميتة تكفل بها السيد شعبان عبد الرحيم.. أدخل الأغنية الشعبية بدهاليز التهريج والفوضى الموسيقية وضجة واضطراب الألحان المتشابهة.. أبدع شعبولا بقتل الفن الشعبي بدم بارد.. صار مكانه على سماعات مراكب تعيسة تجول بالمتنزهين على مياه النيل بثلاثة جنيهات أو فوق "حنطور" يتمشى بثقة بين السيارات في شارع جامعة الدول.. انهار هذا الفن العريق في مصر وكان لزاماً أن يتكرر المشهد في الفضاء السعودي.. هذا يحتاج إلى كلام عريض، وتوسع أكثر لولا أن الأسباب التي جعلته يتوارى ويتهاوى لم تكن في الفن أو الفنانين بقدر ما هي في مزاج المتلقي والمستمع.. بدأ الفن الشعبي السعودي يتمدد على أنغام بشير حمد شنان وطاهر الأحسائي وعيسى الأحسائي ثم جاءت مرحلة فهد بن سعيد وعبد الله الصريخ وسلامة العبد الله وسعد جمعة..
وحتى الوصول إلى خالد السلامة وعبد الله السالم ومزعل فرحان.. كل هذه الأسماء غابت وتنحت والأسباب كثيرة.. من أبرزها هي مزاج الناس.. الوعي الاجتماعي خلال الثلاثين عاماً الأخيرة تسارع باتجاهات أخرى.. تركوا أشياء كثيرة في غياهب وسالف الأزمان.. ظهر مصطلح "زمن الطيبين"... وصارت تلك الوجوه والأصوات وألحانهم وكلماتهم وأغانيهم من مخلفات زمن الطيبين.. فشلت تلك المجمموعة في الصمود أمام التغيير وتحول ذائقة الناس.. الشعراء والملحنون أيضاً ساهموا في عملية الانزواء والتراجع.. الشعراء البارزون والملحنون المبدعون لا يتعاملون معهم أبداً.. ناصر الصالح مثلاً يستحيل أن يجتمع مع مزعل فرحان بعد أن صارت الأماكن أغنية ترددها حناجر أنغام وآمال ماهر وماجد المهندس.. ربما أعود لإضافة أسباب أخرى مرة أخرى..
شاب مبتعث يدرس القانون في جامعة غرب لندن وينتظر ألبومات المغنية أديل يصعب عليه قضاء ساعة من وقته مع صوت طاهر الأحسائي يصدح بأغنية حيوا شباب تعلم.. لقد تعلم ذلك الشاب أن يعدل هرمونات مزاجه.. وأول ما تعدل في هذه الهرمونات ترك جوقة الشعبيين تترنح بين ردهات زمن الطيبين.