2017-07-19 | 02:50 مقالات

مسافر مع راكب غريب

مشاركة الخبر      

لا يصيبني الملل داخل الطائرة مهما كانت الرحلة طويلة.. هذه نعمة من الله.. ونعم الله لا تعد ولا تحصى.. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. اللهم لك الحمد قبل الرضا.. ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا..

 

أقضي وقتي بقراءة كتاب إذا كان في يدي أو أتابع فيلمًا على شاشة المقعد متى ما توافر شيء يتوافق مع رغبتي ومزاجي.. ثم إنني نادرًا ما أغادر الطائرة دون أن أستسلم لغفوة نوم تمتد أحيانًا على حسب حاجتي لإغماض عيني ولو نزرًا.. ولدي هواية أخرى لا أعرف هل هي من اختراعي أو أن هناك من يشاركني ويزاحمني عليها.. أتعامل مع الطائرة وركابها وكأنه عالم منفصل بذاته.. فأترقب الوجوه والتعابير والانفعالات والضحكات.. وأرجو ألا يؤاخذني المولى عليه إذا كان فعلًا وعملًا ينطلي تحت الأمر الإلهي الكريم.. "ولا تجسسوا".. ويشهد الله أنني أتأمل فقط.. لا أكثر ولا أقل..

 

أرى أن الطائرة وحدها القادرة على جمع تعارضات هذا العالم الهائم بالمتناقضات والعجائب والغرائب.. هذا مسافر لأنهم قالوا له إن والدتك تلفظ أنفاسها فأسرع لعلك تختلس من محياها ابتسامة الوداع ونظرة الرحيل الأخيرة.. وهذا مسافر يعزي في وفاة ابن قريب اختطفه الموت في حادث مروري مروع أبكى أهل قريته الصغيرة عن بكرة أبيهم.. وهذا مسافر لحضور حفل زواج رفيق العمر الذي ظل أغلى لديه من نور عينيه.. وهذا مسافر اقترض مبلغ التذكرة والسكن المؤقت في المدينة الكبيرة لعله يجد فرصة عمل جديدة بعد أن أوصدت الأبواب القديمة في وجهه.. وهذا مسافر لعقد اجتماع مع مستثمر أجنبي وبينهما صفقة ربما تجتاز النصف مليار دولار.. وهذا مسافر لمراجعة طبيب زائر ممنيًا النفس أن يكتب الله على يديه علاجًا لمرضه الغامض الذي عجز عنه عشرات الأطباء قبله.. وهذا مسافر عائد إلى أهله وبيته وأسرته عقب غياب امتد كثيرًا وراء جدران العناء والغربة والبحث عن لقمة العيش.. وجوه عابرة كثيرة تسعى في مناكبها.. داخل الطائرة لو كل مسافر كتب سبب رحلته لوجدت أمامك موسوعة من أقدار البشر.. وسبحان مسير هذا العالم وهذه الدنيا وهذه الحياة..

 

كلما ركبت الطائرة ورأيت مسافرًا يجري مكالمة عاجلة قبل الإقلاع قفز إلى ذاكرتي قصة رجل جمعتني به المقاعد قبل ثماني سنوات تقريبًا.. أجرى سريعًا ثلاثة اتصالات متوالية وأعطى ثلاثة مواعيد مضروبة ثم غط في نوم عميق.. قال في المكالمة الأولى لمن كان في الجهة المقابلة إنه سيجري اتصالًا بشخص آخر وسيعود لمكالمته بعد نصف ساعة.. بينما الوقت الذي سنقضيه في الأجواء قرابة الثلاث ساعات؛ ما يعني أنه لن يعود إلى مكالمته إن حدث إلا بعد مئتين وسبعين دقيقة وليس ثلاثين دقيقة كما قال.. والمكالمة الثانية قال لصاحبها إنه سيقابله بعد ساعة واحدة.. وفي المكالمة الثالثة قال إنه يتصل بصديق مشترك بينهما ويطلب منه تأجيل لقائهما المرتب مسبقًا إلى وقت لاحق ولم يفعل.. هذا لا يمكن تصنيفه بالكذب والخداع.. أظنه أقرب إلى مواعيد لا يهتم كثيرون لدقتها.. أغلبنا ذلك الرجل.. وأغلبنا لا نتقيد ولا نلتزم بالموعد المحدد الذي تطلبه شركات التقسيط... لكن أيضًا لا يمكن التعامل مع المواعيد بهذا الإسفاف والتسطيح والاستهتار كما فعل صاحبنا المسافر الغريب.. والروائي الروسي العظيم دوستويفسكي كان يقول: "احترام المواعيد من صفات النبلاء والناجحين في الحياة"..

 

ما أكثر المسافرين الذين مروا أمامنا.. لم تجمعنا معهم مواعيد النبلاء والناجحين ولم تجمعنا معهم القرابة والعشيرة والتوجهات.. إنما هي رحلة الحياة التي تأخذ الواقفين على طريقها.. وكان ذلك المسافر أحد أولئك الذين مروا.. ثم مكثوا في خيالي بمواعيد جعلت منه بطلًا في فيلم قصير فاشل..!!