وعرفت معنى الاكتئاب
السفر إحدى متع الحياة الكثيرة.. والشافعي ينصحكم فيقول: "سافر ففي الأسفار خمس فوائد".. وبالتأكيد ملايين يمتطون مقاعد الطائرات حول العالم لم يسمعوا بنصيحة الشافعي، لكنهم سائحون في بلاد الله الواسعة..
وعبدالحليم غنى من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي رائعته الخالدة سواح.. وأظن ألذ ما في السفر هو الجلوس في صالة المغادرة، ثم تبدأ رحلة المتاعب وما الحياة إلى رحلة لا تنتهي من الجهد والتعب.. أما أقبح وجوه السفر فبالطبع هي رحلة العودة والإياب.. بعضنا كالذي يساق إلى الموت بعد أن لمس معنى حرية المنام والانطلاق والإقبال على الدنيا بكل ملذاتها البريئة.. في زمن ولى ولن يعود كلما عدت من رحلة مع الأصحاب والأصدقاء نتواصل أحياناً بأرواح مسدودة ونبقى أياماً فقط نتذكر لحظات الضحك والمواقف الطارئة والمفاجآت المحببة للنفس.. ونعيش بعد العودة أيامًا أخر منزعجين، وكأن العالم كله أصبح نكداً وهماً وعذاباً.. وحينما وقعت عبارة "اكتئاب ما بعد السفر" على مسامعي، جاءت بمفعولها كالسحر الحلال.. كأنني كنت أحتاجها لأبرر ماذا يحدث في أمزجتنا وصدورنا التي تصبح أضيق من سم الخياط.. كنا نعرف ونستوعب فقط أن أوقات السعادة والانشراح والانبساط قصيرة وسريعة وتمر على الناس كالبرق الخاطف.. ما كنا نعرف وندرك أن هذه ليست مشكلة خاصة بنا نحن الذين لم نستوعب هذه الدنيا بكل تفاصيلها.. وأظنني لو عرفت أن الكثيرين حول الكرة الأرضية يصابون بهذا النوع من الاكتئاب لاستقبلناه بهدوء وتروٍّ واستعداد تام، وتعاملنا معه كما ينبغي أن يتم التعامل مع المصائب أجارنا وأجاركم الله.. لقد تأخرت العبارة كثيراً قبل أن تصطدم بذهني وخيالي.. بعد أن استوعبتها تماماً وتأقلمت مع جوهرها ما عاد هذا الاكتئاب يداهمني.. ليس لأنني عالجت نفسي بالوقاية التي يقال إنها خير من العلاج، ولكن فقط لأنني عرفت المصيبة قبل وقوعها وجهزت قدراتي المعنوية للدفاع عن نفسي؛ حتى لا أسقط بالفخ كما كان يحدث لي حينما كنت جاهلاً لهذه العبارة المنقذة.. مرة أخرى أقول إن السفر لذيذ ومنعش وصالة المغادرة داخل المطارات تستحق الاحترام على أقل تقدير.. وأيضاً عبارة الاكتئاب لا تقل احتراماً منها.. أيها العائدون من السفر.. حمداً لله على السلامة ووقاكم الله شر الاكتئاب..