أحبكم
وأعتذر!
ـ في زمن سابق، كنتُ قاسيًا في الحكم على الشعراء، تَلَا ذلك الزمن، زمن صرت فيه أقل قسوة، مُهادنًا على نحو لا يطيب لي، محتفظًا بغضب داخلي، وملامات نقدية أحاول تجنّبها قدر الإمكان، فإنْ لم أقدر تحايلتُ بمراوغات لفظية، يُفرحني من الداخل فشلها في تحقيق مبتغاها المصنوعة لأجله!.
ـ منذ سنوات قليلة فقط أشعر أنني انتقلت إلى مرحلة جديدة، صرتُ شديد التعاطف مع كل من يكتب شعرًا!. مُحبًّا على نحو خاص، لنوعين من الشعراء، قادرًا على تلمّس البهاء في نتاجهم:
ـ النوع الأول، وهو النوع الذي ظللت مغرمًا بنتاجه عمري كله، من يكتبون المغاير، من يستفزون بصيرة المشاعر للنظر من زوايا جديدة، أولئك الذين يتّسع الفضاء بمشاغباتهم لكل منهم قاموسه ورِتْمه، بعضهم يتفوّق على بعض بثراء واضح وتمكّنات جليّة، لكنني أحبهم جميعًا بالقدْر نفسه، فحتى أولئك الذين لا يمتلكون مخزونًا لغويًّا هائلًا، ويكتفون دائمًا بما سبق لديهم من كلمات، تسحبهم إلى ذات المواضيع التي طرقوها سابقًا، أقول: حتى أولئك، يمتلكون، فيما إذا كانوا من الصنف العبقري نفسه، مدهشات!. يُبْهرون روحي بقدرتهم على التقاط زوايا جديدة، زوايا أكثر عظمةً من كونها جديدة، زوايا تكاد تكون غير موجودة قبل حضور ترنيماتهم المذهلة، كأنّ المسألة تتخطى حدود الانتباه وفطنة الالتفاتة، إلى الإيجاد!.
ـ بل إنني،أحيانًا، أبدو أكثر ميْلًا إلى هؤلاء الذين لم ينشغلوا أبدًا بزيادة مخزوني من المفردات الجديدة، يزيد افتتاني بهم، كيف يقدرون دائمًا على استخدام مفاتيح أبواب قديمة لفتح أبواب جديدة، أبواب لم تُوجَد إلا بسبب مرورهم!.
ـ هذا الصنف من النوابغ قد لا يكونون شعراء بالضرورة، بعضهم كتّاب زوايا صحفية، بعضهم روائيون ومسرحيون وكتّاب قصّة، بعضهم نُقّاد، بعضهم مُغرِّدون، وبعضهم حكّائيون في شبكات التواصل، أو ضيوف عابرون في جلسات عابرة!. لا أُتعب نفسي بتصنيفهم، أسمّيهم شعراء، ويصحّح لي قلبي فأسميهم: شعرائي!. هم كذلك طالما أنهم يمتلكون القدرة على أخذي من يدي إلى أبواب وشبابيك وزوايا جديدة، تزيد من فطنتي وذكائي!. بل إنهم أحيانًا، لا يتحركون بي خطوة واحدة، يبقونني مكاني، يأتون هم إليّ، ودون أن يُخطِّئوني، يهتفون بعيون طفولية بريئة، مشيرين بأصابعهم إلى المشهد نفسه الذي كنت أنظر إليه، كاشفين لي جهلي، وضعف نظري، هادمين جدار مَلَلِي مما رأيت، رافعين عن كاهلي ثقل ما ظننته خبرات سابقة كافية لتقييدي بأحكام نهائية سبق لي إصدارها والركون إليها!. بسبب من هؤلاء، لم يعد الشعر بالنسبة لي وزنًا وقافيةً، اتّسع كثيرًا، صارت لُقياهُ ممكنةً في دروب غير دروبه المُتَّفق عليها سلفًا!.
ـ النوع الثاني، يمثّله الشعراء الذين لا يقولون جديدًا!. يكتفون بدوزنة أوتار الكلمات، ويتغنون ببحّة طيّبة، بسيطة، لا تريد الذهاب لأكثر مما هي فيه وعليه، يحكون حكايات عادية، بنظرة ليس فيها من الجديد شيء ولا تبحث عن جديد أصلًا!. فقط تشعر أنّ أصحابها طربوا لما قالوا، طربوا وارتاحوا!. هؤلاء الشعراء العاديون جدًّا، والذين يعرفون أنهم كذلك، ولا يريدون غير ذلك، بل لا يحسبون أن الشعر شيء غير ذلك أصلًا!. هو بالنسبة لهم ليس أكثر من استقامة وزن وملاحقة قافية، يُجمّلون به حكايات مجالسهم لا أكثر، ليتهم يعرفون كم أطرب وكم أتشوّق إليهم، وكم أتمنّى اليوم ممن سبق لي أن التقيت منهم في زمن سابق، وقسوتُ عليهم بآراء مُتَنَطِّعة، قبول اعتذاري!.