القراءة المريضة!
نعم، هناك سبب حزين، ومؤسِف، للانغماس في الكتب، ولاتخاذ القراءة نهجًا ووسيلة حياة!. ليست الأمور طيبة دائمًا، وقد تكون صحبة الكُتب نتيجة أمراض وعُقَد نفسيّة!. يتبادر، أول ما يتبادر، الغطرسة وحبّ التظاهر بالثقافة ممّا يأمل معه المريض الظّفَر بواجهة أو وجاهة!. ومع صحّة هذه العِلّة، إلّا أنها ليست ما أريد الإشارة إليه هنا اليوم.
ـ ما أريد الإشارة إليه هو أنّ القراءة، وأحد أسباب الانكباب على الكتب، إنما هو ناتج من خيبة أملنا في الناس، وانعدام ثقتنا بكثير ممّن نعرف ونُعايش منهم!. خيبة وانعدام مَرَضِيِّيْن!، أي بما يتخطّى الحالة الطبيعية والمُقنعة والحاكمة بإنصاف على الآخرين، وبالتالي على أنفسنا، وعلى الحياة كلها!. مثل هذه النوعية من القراء خطر على الناس، وأكثر خطرًا على الكُتّاب، وأشد خطرًا على أنفسها!.
ـ خطر على الناس لأنها لا تجيد ولا تريد معرفتهم!، دخلت عوالم الكتب نتيجة اتخاذها موقفًا منهم، موقفًا فيه من راعبات السّلبيّة ما يكفي لهلوسات انتقام محلوم بها، بتقطّعٍ أو على الدوام!.
ـ وخطر على الكُتَّاب من زاويتين، الأولى تخص الكتابة نفسها، خاصةً الكتابة الأدبية الجماليّة، ذلك أنّ هذه النوعية من القراء لا تقرأ، حقيقةً، لاكتساب الأفكار وتجريبها وتأمّلها بما يُسهم في حضّ أفكار أخرى على التّدفّق!، كما أنها لا تقرأ للمُتعة!، إنما تقرأ للهروب من شيء أو من كل شيء!. تبحث عن مُخَدِّر لا عن مُحَفِّز!.
ـ وفي المجتمعات التي يكثر بها مثل هؤلاء القُرّاء المرضى، تتم خديعة ما، أو تتم استجابة الكُتّاب لإغراءات شهرة وانتشار صعبة المقاومة، فيتم إصدار مؤلّفات كثيرة، وأعمال عديدة، كتب وقصائد ومقالات ومسرحيات وأغاني ومسلسلات وأفلام وبرامج تلفزيونية ولوحات رسم، تدغدغ مثل هذه المشاعر وتلعب على أوتار قلوب أصحابها، مما لا يثمر إلا فنونًا دعائية رديئة!.
ـ زاوية الخطر الثانية تخص الكُتّاب أنفسهم، تخصّهم كأشخاص، وبالذات أولئك الكُتّاب الذين استجابوا لإغراءات الشهرة والانتشار!، وكأنّ الفن الحقيقي ينتقم لنفسه!، ذلك لأنّ هذه النوعية من الكتّاب والفنانين وبما أنها تحب الشهرة، وبما أنها حققتها، فإنها تريد الاستمتاع بها!، إذن لا بد من مخالطة الناس ومُجالسة المعحبين!، لكن ولأن المعجبين من النوعية التي لجأت إلى الكتب لاتخاذها موقفًا سلبيًا وإصدارها حكمًا جائرًا على من تعرف من الناس، فإن ما يحدث في مثل هذه اللقاءات هو أن الكتّاب انزلقوا وصاروا من الناس فعلًا!، وبالتالي: ما أن تنفضّ الجلسة حتى يُصدر هؤلاء القراء أحكامًا جائرة على شخص الكاتب!.
ـ أشهر قارئتين على الإطلاق، خرجتا من الكتب نفسها، أي من خيال الكُتّاب، وهما مدام بوفاري وآنا كارينينا!. بطلة فلوبير وكذلك بطلة توليستوي، ظلّت تقرأ طوال الرواية التي تُقرأ عنها، وفي النهاية، ابتلعت واحدة السُّم، بينما رَمَت الثانية بنفسها من القطار!. لم يؤثِّر كتاب واحد مما تمت قراءته في تغيير فكر أي من السيدتين!، ذلك أنه ليس فيهما من قرأت لغير الهروب من واقعها إلى عالم آخر!. ليس أدلّ من هذا خطرًا على نفوس هذه النوعية من القرّاء!.