الرحلة!
- يريد الإنسان، دائمًا، مكانًا جديدًا، وأحيانًا تجده يحلم بزمن آخر غير زمنه، ظنًّا منه أنه بذلك يمكنه الحصول على حيويّة وبهجة، أو مزيدًا منهما، وقد يكون الإنسان مُحقًّا في ظنّه هذا، غير أنّ كثير ممّن تحقق لهم شيئًا من ذلك، عبر السفر مثلًا، أو تغيير منزل أو وظيفة، يتساءلون عن سبب عدم حصولهم على الحيويّة والابتهاج، وبالتالي عن حجم السعادة، التي كانوا يأملون بها ولم تتحقق لهم بالقدر الذي بشّرتهم به ظنونهم؟!.
- ظنّي، أنه هنا، وأمام تساؤل لا يخلو من إحباط كهذا، تتكشّف أهميّة الأمر الذي تم تجاهله!.
- لقد تمّ البحث عن مكان جديد، حياة جديدة، ناس جديدة، بالجرأة والجسارة والتصميم، وبالاستعداد الطّيب، مع عيب خفيّ: غياب هذه الجسارة، وضعف الاستعداد، في طلب “معنى” جديد!.
- كثير من الناس يرتعبون من مجرّد التفكير بضرورة الحصول على “معنى” آخر، جديد!.
- ربما بلغ هذا الرّعب من الحَدّ، أنهم لا يظنونه رعبًا، فهم يُخفونه حتى عن أنفسهم، وبالذات عن أنفسهم، ماضين في هذه الحياة بلهاث محموم نحو تجديد كل ما يقدرون على تجديده فيما عداهم!.
- إذا كان “الإنسان عدوّ ما يجهل” مَرّة، فإنه عدوّ ما يعرف عشر مرّات على الأقلّ!. لكنه لا يعرف، في الغالب، لا يعرف!.
- خوفه المتعاظِم من هذا العدوّ، أيّ ممّا يعرف، يأخذ، لفرط تعاظمه، شكلًا آخر: الاستسلام، حدّ العبوديّة لما “يعرف”!.
- يعطي لهذه العبوديّة أسماءً أقلّ وطأة، لكنه يُقدِّس هذه المعرفة، أيًّا كانت، ويدافع عنها بشراسة، لدرجة أنه كثيرًا ما يكون على استعداد لربطها حول عنقه كمشنقة والتّدلّي منها منتحرًا!.
- إن ما يخيفنا حقًّا، هو ما نعرف!. وتحديدًا: ما رسخ في الذاكرة والوجدان على أنه حقيقة!.
- هذا الرسوخ يقدّم حماية متزايدة كل يوم لكل ما عرفناه عن طريق التربية أو التعليم أو المجتمع أو أي شيء آخر!.
- مجرّد التفكير في تقليب المعنى وتأمّله من جديد، والحذف منه أو الإضافة إليه، أو تصحيح نهجه ومساره، يُشعرنا بخيانة، أو قلّة وفاء، أو نكران جميل، لكل من عرفنا في هذه الحياة، قبل أن يُشعرنا بكل هذه المشاعر السّلبيّة تجاه المعلومات والمعارف ذاتها!.
- يتجاهل كل واحد منّا الحقيقة الأبسط والأهم: أن كل واحد منّا هو عُمق نفسه وأن كل ما عدا ذلك سطح!.
- وبتجاهل هذه الحقيقة نمضي بحثًا عن أسطح جديدة: مكان جديد، عمل جديد، ثياب جديدة، عمليّات زرع شعر وعمليّات تجميل أُخرى!، و...، و....!، دون أن نقترب من “المعاني” القديمة!. هذه نريدها ثابتة ونريد لكل جديد أن يدعمها بما يؤكد أحقيّتها في الثّبات أكثر!.
- لعلّ أهم ما في مشروع “سيجموند فرويد” أنه جاء مُربكًا لأهم ما نظنّ أننا نعرفه عن أنفسنا: نوايانا!.
- بذلك تخطّى “فرويد” كل من سبقوه في الكلام عن الشعور واللا شعور وحقيقة كلّ منهما!.
- وضع “فرويد” مسألة معرفتنا بنوايانا موضع شك ومُساءلة!. وعلى أساس من هذا الفكر الجديد تمامًا، وجد الإنسان نفسه أمام اختبار جديد بالمرّة، فيما يخص صلاحه وطلاحه، وسداده وفساده!.
- حين أفكّر في الأمر، فإنني لا أكاد أرى الإنسان إلا: تفكير، وطريقة تفكير!.
- وعليه، فإنني لا أكاد أرى حلًّا، للحصول على مزيد من الحيويّة والبهجة إلا بالتّجدّد!. وهو ما لا يُمكن حدوثه من الخارج إلا شكليًّا، وبنتائج مؤقّتة سريعة الزّوال!.
- الأمر يحتاج إلى جسارة حقيقيّة، وتدريب وفهم، للانقضاض على أفكار كثيرة سابقة محبوسة في معانٍ قديمة، وكسر الأقفال، وإخراجها من سجنها، ومساءلتها من جديد بفكر نقدي وفلسفي وجمالي جديد، بعيدًا عن مهابة تجذّرها وامتدادها!.
هذا هو السفر. هذه هي الرحلة!.
- من الآخر: المشكلة في آلة التصوّر والتصوير التي في رأس كل واحد منّا!.
-مهما وجد أحدنا نفسه أمام منظر جديد، ومهما كانت طبيعة المنظر زاهية، فإنه، نعم، يحصل على صورة جديدة، لكن بنفس قدرة وطاقة ومواصفات وإمكانيّات الكاميرا التي معه، الكاميرا التي فيه، الكاميرا التي هي هو!.
- فإذا ما كانت هناك عيوب في الكاميرا نفسها، فإن المنظر الطبيعي الجديد لن يساعد في إصلاحها، ولسوف تظهر، بل ربما تظهر الصورة، بشكل أوضح إيذاءً وضررًا!.