فن الخمسين!
الخمسين من العُمر رَبْوة، فإن زدتَ رَبَتْ. منها تنظر إلى ما سبق كأنك تنظر إلى أسفل. ترى الأشياء صغيرة. غالب ما أغضبك لم يكن يستحق هدْر الأعصاب. كل ما أقلقك تم حلّه أو تجاوزه. غَلَبْتَه أو تحايلتَ عليه أو تكيّفتَ معه. الدنيا بسيطة وحلوة. نِعَمُ الله تتالى، ورزقه لا ينقطع..
ـ ميزة الخمسين، شعورك بالطمأنينة، اكتسابك لشيء من الحكمة، الدفء في التعامل مع الحياة ومعطياتها، الرضا الداخلي، دون شعورك بفقد حيويّةٍ أو شباب!.
ـ يحزنك رحيل أحبة، لكن ليس إلى هذا الحد الذي كنت تظنه مرعبًا وخانقًا حين كنتَ تتخيّله فحسب!. يصير للحزن شكل آخر، وللرحيل طعم مختلف، وللأحبة مذاق أطيب: من رحل ومن بقيَ ومن سيأتي!.
ـ في الخمسين، وما إن تتخطّاها، ينشرح الصدر لتسامحٍ لم تكن تحسبه فيك، ولم تكن تعرف لذّته وبهجة ألوانه، له طعم السُّكّر، وانعكاس الشمس على استدارة حبّات العنب خضراء وحمراء وقاتمة!. تتسامح حتى مع هفواتك السابقة، وأخطاء الشغب الفَتِيّ. يصير كل شيء، كل حدث، قابل لتأمّلات. صحن فاكهة التأملات يغدو أطيب، وحتى أكثر مرحًا!.
ـ وللخمسين حقوقها!. الخمسيني لا يطالب بحقوقه، تتدلّى أمامه ويقطف!. يشعر أن من أول حقوقه أخذها دون مطالَبَة!. ومن هذه الحقوق: الانفراد بنفسه كيفما شاء ومتى شاء!. لا صخب ولا ضوضاء، ولا حضور مناسبات مُكلفة نفسيًّا وبدنيًّا!.
ـ والجميع يعذر، ومن لا يعذر، تتفهم أمره ولا ترتاب في نواياه، لكنك تشعر بتهافت لزوم تحقيق مطالبه، لا يغيظك إصراره، وآخر حدود المجاملة أن تبحث عن كلمتين طيّبتين، لا تبديان أسفًا مخادعًا، كل المطلوب منهما عدم الكشف عن مدى استسهالك للأمر إلى الحد الذي يبدو معه إصراره مضحكًا، وأقل رزانةً مما "يطن" ويظن: في الخمسين تختار أنتَ وحدك الحروف التي يجب وضع النقط عليها!.
ـ الخمسين، ومهما كانت أخطاء ما قبلها فادحة، فإنها "مدموحة"!، بل من بدائع هذه المرحلة السِّنِّيّة تجديدها الوعد بأخطاء جديدة، ذات طيش من نوع خاص، فريد واستثنائي بمعنى الكلمة، من مزاياه: البراءة والمرح، مزايا شغب الطفولة نفسها!.
ـ لا تحذر: ما ترفضه في سن الخمسين هو فقط ما يجب أن ترفضه!، ذلك لأنها سنّ القبول والتقبّل، وما دمت في هذه السن لم تتقبل أمرًا؛ فذلك فقط لأنه أمر لا يمكن تقبّله!.
ـ لكن حاذر: لا تصل إلى الخمسين مبكرًا!، لا تصل إليها قبل أن تصل هي إليك!، خَزِّنْ لها من الشغب ما يثير الحنين إليه!. هي في المقابل ستهيّئ لك حنينًا، أبعد ما يكون عن "ثُقل الطينة"، له رفرفة، لا تدري معها هل هو حنين أم حفيف!. الفاء والنون يلعبان، وهل الفن إلا فاء ونون؟!.