الصِّدْق وابن عمّه!
كل مذكرات لناجح أو جيّد، مهمّة ومشوِّقة، متى ما كُتِبَت بطريقة جيّدة، لكن مهما تعدّدت طرق الجودة، فإنّ ما لا يمكن عزله منها أو فصله عنها، هو الشعور بصدقها!.
ـ صحيح أنّ الصدق ليس كافيًا للجمال، وربما لا يصلح سببًا لمتابعة قراءة كتاب، لكنه فيما يخص المذكّرات والسِّيَر الذّاتية تحديدًا، يشكّل عنصرًا أساسيًّا، وفي غيابه يُهدَم كل شيء!.
ـ كل مذكّرات الناجحين تتحدث عن المصاعب التي واجهوها، وفشلهم في عدّة محاولات، وخسارتهم لمشاريع وأصدقاء، لا بأس، لكن ليس هذا هو الصدق، هذا في أفضل حالاته هو الحقيقة!.
ـ والحقيقة يمكن معرفتها دائمًا من شخص آخر غير الذي يقولها!، أمّا الصِّدق فهو مثل البصمة لا يتكرر!، ولا يمكن تلقّيه من غير صاحبه!.
ـ كلاهما فَرْض للكَمَال البشري، غير أنّ الحقيقة فَرْض كفاية، بينما الصِّدْق فرض عَيْن!.
ـ الصدق هو الحقيقة كما نظنّها + مشاعرنا كما نُكنّها!، وألا تكون هذه الـ "+" خارجة من آلَة حاسبة ولا ذاهبة إليها!، من أين تأتي إذن؟!، حسنًا، تأتي باعتبارها جينات، تمامًا مثلما هي موجودة في رسمنا الكتابي لفصيلة دم!.
ـ لو كنت أعرف أنني بتلطيف الكلام سأخُفِّف من حدّة التهمة لفعلت، لكن وبما أنني أعرف أنني لن أعرف!، فسأكتب خبط لصق: في كل صدق نطلبه من الآخَر، جانب فضائحي نتشهّى معرفته!.
ـ شرف الصدق الذي يعلو فوق شرف الحقيقة، هو أنّ الصادق لا ينمّ ولا يغتاب إلا نفسه!، كل ما لا يخصّه إما زيف أو حقيقة، لكنه ليس بالضرورة صدقًا، والذِّمّة الأدبية للقارئ "و السّامع" يجب أن تظل يقظة، مفتوحة العينين، تجاه هذا الفارق الشاسع، خاصةً مع صعوبة، وربما استحالة، أن تكون الحقيقة مُلْك طَرَف واحد!. هي بذلك عكس الصدق تمامًا، إذ لا يمكن للصِّدق أنْ يكون إلّا من طَرَف واحد!.
ـ ولأنّ في الصِّدق جانب فضائحي وتشهيري، فإننا في معظم حقيقتنا وفي غالبيّتنا، نتحاشى سماع "الصدق" من غيرنا عن أنفسنا!، فإنْ لم نكن نتحاشاه فإننا "نتخاشاه"!.
ـ حين نكون نحن أنفسنا في مرمى الهدف، ويقول لنا أحدهم: "تريد الصدق أو ابن عمّه"، نقول دائمًا إننا نريد الصدق طبعًا، لكننا في الغالب نقول ذلك تحديًا لتهديد ما نستشعره ونكتمه ونحاذر من انكشافه، وأظن أنّ ما يرضينا، ويسهم في إطالة العلاقات، هو "ابن عمّه" ليس إلّا!.
ـ ولأنّ سماع النميمة وقبول الغِيبة، من غيرنا عن غيرنا، أمر لا أخلاقي، فإنّ الأدب "الفن عمومًا" يعوّضنا عن ذلك، خاصةً بالمذكّرات الشخصية وأدب السِّيرة الذاتيّة!. شيء مثل تشريع الزواج كحل للرغبة الجنسيّة، في الحالتين: الشهوة موجودة من حيث هي أصل!.
ـ والخلاصة أنّ الصدق لا يُنافي، ولا ينفي الحقيقة، لكنه قد لا يَكُونها، وهو حتى في موافاته بها، ووفائه لها، يظل أكبر منها!، ومتى ما توفّرت للصدق أرضيّة أدبيّة وفنيّة خصبة، موهبة أصيلة مصقولة قادرة على صياغة إبداعية، سابِيَة الإيقاع، فإنه يثمر أعمالًا عظيمة الأَثَر!.