السينما والكفّار!
ـ باستثناء المباريات، لم أعد متابعًا للتلفزيون. ما أريده أجده على اليوتيوب. حتى الـ”نتفليكس” التي بُهرتُ بها أول الأمر، أتّجه لهجرانها، فأنا من عشّاق السينما.
ـ السينما، بالنسبة لي، ليست فيلمًا، لكنها حالة!. “طَلْعَة” قبل أن تكون اطّلاع!. وإذا ما كان الفيلم: دراية، فإن الإظلام في الصالة: مراية!.
ـ لكنني، ولسببٍ لا أتبيّنه، أحب تقليب القنوات التلفزيونيّة سريعًا، مرّة أو أكثر في اليوم!. تقريبًا، لا أتابع شيئًا!. أمس، وبحكم التعوّد، قلّبت بين القنوات، ولدقائق تابعت مشاهد من مسلسل اسمه “قضاة عظماء” بطولة حسن يوسف!.
ـ لم أقدر على متابعة الحلقة بانتباه، تبخّرت المشاهِد، ومن بين دخانها ظهر لي وجه نجيب محفوظ يجيب عن سؤال: لماذا نجد الكفّار في الدراما العربية شخصيات أقرب إلى الحقيقة من المؤمنين؟!.
ـ يوافق نجيب محفوظ على الملاحظة، ويعلّل الأمر، بفطنة وطرافة، على هذا النحو تقريبًا: لأن شخصية المسلم، في المسلسل التاريخي الديني، شبه مقدّسة، والرقيب لا يسمح بالتعامل معها على نحو فني أو أدبي بحيث يمكن للمؤلّف تناولها إنسانيًّا!. هي لذلك تبدو صَنَمِيّة، جامدة، وأقل طبيعيّة!.
ـ لا يكون أمام المؤلّف خيارات فنيّة إلا مع الكفّار!. هنا يمكن للمؤلّف وضع لمسات إنسانية، هي حتى وإن كانت سلبيّة، لكنها طبيعيّة، فالضعف والحيرة والقلق والخوف والتردد طبائع إنسانيّة في نهاية المطاف!.
ـ وأتذكّر فيلمًا لصلاح أبوسيف، أثّر فيّ كثيرًا أيام الطفولة، وما زلتُ أعدّه أحد أجمل الأفلام “الدّينيّة”، هو فيلم “فجر الإسلام”!.
ـ في “فجر الإسلام” تمّت حيلة فنيّة بارعة، للتخلّص من “قُدسيّة” الشخصيات قدر الإمكان!. تفتّق خيال الأديب “عبد الحميد جودة السّحّار”، فابتكر قرية، ليس لها وجود حقيقي تاريخيًّا، تعيش في نفس فترة البعثة النبويّة الشريفة، ويصلها الدين عبر رجل ذي مكانة بين قومه “يحيى شاهين”، وتبدأ الأحداث!.
ـ بهذه الطريقة وُجِدَتْ مساحة طيّبة، ومعقولة قياسًا بزمنها، لعرض مشاعر إنسانيّة على الجميع، المسلم والكافر، كما أتيح لحوار جاد أن يتقدّم باتجاه آفاق فكريّة متعدّدة، أكثر حريّة، وأقل مدرسيّة!. أداء “محمود مرسي” كان عبقريًّا!.
ـ واحدة من عوائص الدخول الفنّي في مثل هذا الأمر، أنه وفي عدم قبول التعامل مع شخصية المسلم التاريخية بما يمكنه خدش أسطورتها!، فإن التعامل مع النقيض، أي مع شخصية الملحد والكافر ومتّبع ديانة أخرى، لا يمكنه الإفلات من دفع الثمن الفنّي أيضًا!.
ـ ولأنه كان يمكن لكل واحدٍ من هؤلاء أن يفلت، وأن يبدو طبيعيًّا أكثر!، فقد لجأ كتّاب الدّراما إلى تقريبهم من المهرّجين في الشكل والأكل والمقام والكلام!.
ـ راجع أي فيلم عربي قديم، وستجد أن طريقة الكفّار في الأكل وحشية وانتقاميّة!، وضحكاتهم مصطنعة وذات ضجيج!، وأتحدّاك إنْ عرفت لماذا يضحكون حين يضحكون!.
ـ ولفرويد ما يقوله في هذا الشأن: كتّاب السيرة يُقدّسون أبطالهم، يُظهرون محاسنهم ويُخفون مثالبهم!. لغرض عاطفي، يُجاهدون لتسجيل الرجال العِظام بين نماذج طفولتهم المثاليين، كي يعودوا إلى طفولتهم من خلالهم كما لو أنهم كانوا الفكرة الطفولية للأب!.
ـ يواصل فرويد: من أجل هذه الأمنية، يمحون ملامح بطلهم الفردية ومظهره، ولا يجيزون له الضعف والعيب البشري، ثم يمنحوننا شكلًا باردًا، غريبًا، مثاليًّا!.