الـ «كان
يا ما كان»!
-في كلمة “كان يا ما كان” طاقة، ولهذه الطاقة سرّ، وفي كشف هذا السر، ينكشف أمر الشغف بالقصص والحكايات والروايات!.
-والسّر الكبير، مجموعة أسرار صغيرة، نحاول هنا تلمّس شيء منها. أظن أن أول هذه الأسرار: البُعد!.
-ما إن نبدأ الحكاية، وسواء كانت هذه الـ”كان يا ما كان” صريحةً أو مُضمرة، فإن القارئ، أو السامع، يحسّ بطمأنينة البُعْد!. هذه الـ”كان يا ما كان” تؤكد له إمكانية الخروج بسلام من كل أحداث الحكاية!. ذلك أنها حدثت في زمن آخر مفصول ومعزول عن زمنه!.
-والبُعد في الزمان أكثر أمانًا من البُعد في المكان!. ليس أدل على ذلك من فيروس كورونا المنتشر هذه الأيام!. بُعد المكان يظل مقلقًا، فقد تقترب النار من الثياب فجأة!، لكن بُعد الزمان يعني فراقًا واضحًا، وعزلًا أكيدًا، ووقايةً كافية من أي ضرر مُحتمل!.
-ضمانات “البُعْد” تُرغِّب في الما “بَعْد”!. تَشُوّق الإنسان للمتتاليات يصير خاليًا من الخوف، وأقرب إلى اللعبة!. فحتى حين أخاف على بطل الحكاية من المخاطر، فإنني لا أخاف على نفسي من الوقوع في هذه المخاطر!. ومن ناحية أُخرى يكون لدي شبه يقين بنجاة البطل، وبأنه سيتغلّب على هذه المخاطر، وإلا لما كان بطلًا، وهو لو لم يكن بطلًا لما كانت حكاية!.
-بهذه الـ”كان يا ما كان” أشعر بنجاة ثلاثة على الأقل، وليسوا أي ثلاثة، إنهم الأهم: أولهم أنا!. لأن “كان يا ما كان” تعزلني!. وثانيهما: الحاكي أو الروائي الذي يقص عليّ الحكاية!. فبحكم أنه يحكي “الآن” فهو مثلي، خارج مأزق الـ”كان يا ما كان”!. زمنه الحاضر في زمني يؤكد نجاتنا وسلامتنا معًا!.
-أما الشخصية الثالثة فهي شخصية بطل الحكاية!. وهو أقل مني ومن الراوي في احتمالات السلامة، لكن وبما أنه بطل الحكاية، ففي هذا ضمان لعدم فنائه سريعًا!. في أسوأ الحالات سيلقى مكروهًا حاسم الفناء آخر الحكاية!. أي عندما ينتهي الراوي من القَصّ وأنتهي من السماع!. يمكننا الحزن عليه عندها مع شيء من الغدر به!. إذ لا يمكننا تجاهل الاستمتاع بالحكاية نفسها!.
-سرّ آخر من أسرار الـ “كان يا ما كان”، هو القطف!. هذه الـ”يا ما” المتحركة بين “كان وكان”، تُشعرني بما أريد تصديقه، وهو أن الرّاوي رأى وسمع ومرّ على كل ما سبق من حكايات، كثيرة ومتنوّعة، وأنه تخيّر لي منها هذه الحكاية بالذات!.
-التخيّر قطف!. الراوي حين قطف فقد قطف لنفسه أولًا!. الإنسان في الغابة أو البستان الغني الكبير، أمامه خيارات يا ما!، ولن يقطف إلا جميلًا أو نافعًا، وفي الغالب سيقطف ما يختصر الغابة ويُعرّف بطبيعة البُستان!.
-وعليه فإنني سأكون مع حكاية جميلة ونافعة وتضمّ في داخلها بقيّة الحكايات، أو على الأقل فإنها تتيح لي إمكانية تخيّل بقية الحكايات، فما دمت قادرًا على تذوّق هذه الحكاية وتلمّس تربتها وتحسس عذوبة الماء التي سُقيتْ به ومعرفة الشمس والهواء في ثمرتها الحلوة، فسأكون قادرًا على تخيّل بقية أثمار الغابة أو البستان بحسب التربة والشمس والماء والهواء!.
- ثمّ، وبما أن الراوي خصّني بهذه الحكاية، فهو يعرفني!. حتى دون أن نلتقي حقًّا!. وهو أمر يتأكد لي كلّما دوّختني حكايته بتقاطعاتها مع حياتي الشخصية وطبيعتي ذات الأسرار الخفيّة التي لا يعرفها أقرب المقربين، وربما حتى أنا لم أكن أعرفها عن نفسي!.
-وإذا ما حدث هذا مكتوبًا، لا شفاهيةً، فقد ضمنتُ لنفسي كشف خباياها لها مع هدية أخرى عظيمة تكاد تكون مناقضة: الستر!.
-فكاتب الرواية لا يعرفني إلا معرفة افتراض!. إنه لا يقدر أن يشير بإصبعه عليّ قائلًا: لقد فُضِح!. والكتاب الذي نطق لي بالكثير يظل أخرس، كاتمًا لأسرار بهجتي وشهوتي ومخاوفي وارتعاشي من صفحاته!.
-عندما أنتهي من الكتاب، أكون قادرًا على تصحيح عيوبي، ومصالحة ذاتي، دون خسائر أو ليّ ذراع!.
-الكتاب لا يحتفظ بـ”سي دي” ـهات لك!. هو مُرتضى منصور، لكنه ليس “مرتضى منصور”!.