2020-12-12 | 22:49 مقالات

فنجان قهوة

مشاركة الخبر      

أعرف أن الكذب صفة مذمومة بصورة عامة، بل إنها تنهي مصداقية الإنسان، لكن الكذب عالم كبير ومتنوع ومنه ما هو غير ضار ، بل الاستماع إلى بعض الكذب الذي لا يضر المستمع ممتع ومسلٍّ إذا كان الكذاب يتمتع بالذكاء وخفة الدم، فيحصل المستمع على فاصل من الحكايا المضحكة بعيداً عن الجدية التي يعيشها كل يوم، ولكي يستمتع المتلقي بالكذب، عليه ألا يكون أشبه بالمحقق، فلا بد أن يعطي للكذاب كامل الفرص لبناء خياله وانتقاء كلماته دون أن يشعره بأن أحداً يتابعه ليحقق معه فيما يقول.
والكذابون أنواع، منهم من يصنع القصص بحبكة تكاد لا تفرقها عن الحقيقة، كما أنه يرويها بأسلوب جاد ورشيق وشيق وأداء صوتي متميز، وهناك نوع آخر مصاب بالنسيان للأسف لأنه ينسى أجزاء من حكاياته فيصيغ أحداثاً مختلفة في كل مرة يقص فيها نفس الحكاية، وهذه متعة أخرى للمتلقي رغم هذا العيب الفني للكذاب، وهناك الصنف السيئ.. كذاب وثقيل دم، وأنا هنا لا أتحدث عن ثقال الدم، فهؤلاء غير مرغوب بهم حتى إن لم يكونوا كذابين، والكذاب الظريف فنان بشكل من الأشكال، فهو مؤلف ومخرج ومؤدٍّ، لكنه لا ينال هذه الألقاب المحترمة لأنه ارتبط بالكذب لا بالفن. قد يكون كل واحد منا صادف أو تعرف على أحد الكذابين الماهرين، أنا التقيت بأكثر من واحد، وصادف أن التقيت مع أكثر من واحد في وقت ومكان واحد، واكتشفت بأنهم لا يحبون بعضهم بعضًا، بل إن كل واحد منهم يتهم الآخر بالكذب، فسرت ذلك على أنه غيرة فنية من باب المنافسة التي لا تتصف بالروح الرياضية، لكن الشخصية الكذابة التي بقيت في ذاكرتي هي تلك التي التقيتها صدفة في بهو أحد الفنادق، تقدم نحوي وقدم نفسه وجلس دون أن أدعوه للجلوس، ثم بدأ التحدث بمواضيع كبيرة، كان وقوراً وصوته رخيمًا، شرح لي السبب الذي جعله يهدي الفندق الذي نجلس في بهوه للمالك الجديد، قال بأنه أنقذه من الموت في إحدى المعارك التي خاضها في فيتنام عندما كان مستشاراً عسكرياً للقوات الأمريكية، رغم أن عمله الحقيقي هو بائع نكات وكاتب أغانٍ، ثم قام بالغناء، وعلى الرغم من أنني كنت أمسح دموعي من الضحك إلا أنه لم يضحك، ولم يسأل عن سبب ضحكي، بعد ساعة ممتعة استأذن وقال ألا أدفع ثمن المشروبات فهي على حسابه، عندما أردت المغادرة سألت إن كان فعلاً قد دفع ثمن المشروبات، فقال لي الموظف: “لا يا عم ده كل يوم يشرب قهوة على حساب الناس”..