#بلكونة
غواصو الأحقاف: الرواية ظلّ لغتها!
-”بلكونة” الجمعة، اليوم غير!. لأنّ ضيفنا ومُضيفنا اليوم غير!. خالد الرفاعي، يلبّي الدعوة بكرم، ويتفلّت من شروط “بلكونة” الجمعة بسيل أدبي فاخر!، مبحرًا في قراءة من نوع خاص لرواية أمل الفاران: “غواصو الأحقاف”:
•••
- 1 -
الرواية ظلُّ لغتها.. تتسع معها أو تضيق..
لا أقصد هنا لغة النحاة، ولا لغة البلاغيين، بل لغة البناء السردي، القادرة على إيقاد التجربة، وترتيب حقول السرد، ثمّ ضخّ المعرفة الحرّة في شرايينها..
من يدخل الرواية بغير هذا المبدأ تختلط عليه الجهات، وتتخطّفه طرقات السرد، ولعلّ هذا المبدأ في مقدمة ما تفتقر إليه التجارب الروائية اليوم، ليس الضعيف منها وحسب، بل حتى ما يبدو لنا منها على قَدْرٍ من الثراء؛ بسبب اتكائه على “البلاغي” و”الشعري”!.
سأضرب مثلًا على هذا المبدأ بتجربة أمل الفاران، وتحديدًا روايتها “غواصو الأحقاف” الصادرة عام 2016م.
إن أول ما يستوقف القارئ في مدخل هذه الرواية قدرتها على الاستعراض باللغة.. فإلى نهاية ثلثها الأول “تقريبًا” تبدو عصية على القارئ، من فَرْط ما مدّتْ من خطوطِ السرد وطَوَت، وكثرة ما فتحت من الحكايات وأغلقت.
كلما ظهرت شخصية في المستهل ظنّها القارئ مدارَ الحكي، وكلما برز حدثٌ حسبه الخيطَ الناظمَ لما سيأتي، لكنّ الواقع أن الرواية تخلو مما يُعرف بـ “الشخصية الرئيسة” و”الحدث الرئيس”، وأنّ كل ما حملته من عناصر السرد حملته ليكون وقودًا لنار اللغة. واتسعت دوائرُ اللهب المتفرّعة منها؛ فأضاءت لنا مرحلة زمنية منسية من تاريخنا المحلي، مرحلة لها منطقها الخاص.
تقدّم هذه الرواية تمثيلًا مختلفًا للمرحلة التي سبقت تأسيس الدولة السعودية الحديثة، تعيد كتابة جزءٍ من تاريخنا عن طريق تعرية تحالفنا القديم على تغليف إنسانِهِ بمقولاتٍ لا تعبر إلا عن جهله وطيشه وعنصريته وسذاجته...إلخ.
إنها محاولة لتحرير الإنسان في تلك المرحلة من قيد التاريخ، وإضاءة جوانبَ منه ظلت مظلمة على مدى قرنين!.
- 2 -
جميع شخصيات الرواية ضحايا.. حتى تلك التي مثّلت دور الجناية!.
مسعّر الحرب “فيحان” – مثلاً – كان ضحية لاحتقار والده وتهميشه وتفضيله الدائم لأخيه “عموش”، وقد أدى به هذا إلى كرهٍ عميقٍ لأخيه تشعله أمه كلما هدأ..
“شافي” أيضًا، شابٌ وسيم، مسكونٌ بالدعة، اضطر – مع الأيام – إلى خلع وجهه المجلّل بالبراءة وارتداء وجهٍ مستعار لا ينسجم مع روحه النقية.. اختار “مجبرًا” في مرحلةٍ ما أن ينشط في الاتجاه المعاكس لطبيعته؛ ليزرع نفسه في معاني الرجولة والقوة والشجاعة، التي رُتّبت – وفق منطق تلك المرحلة - لتكون ضد الإنسانية لا معها!.
“جابر بن صالح”، الذي أحب “بتلا” وأحبته، تنازل عن حبهما الطويل في جلسة قصيرة، وقف مستسلمًا أمام خاله وهو يقدم له شقيقتها “خفرة” بدلًا منها، مقدّمًا أمه وخاله على قلبه!
“بتلا” فعلت الشيءَ نفسه.. تلفّعت بالصمت. حتى حين سألتها شقيقتها “خفرة” عن سرّ بكائها، أشاحت بوجهها وردّت بصوتٍ مجروح: “عيوني توجعني” “ص79”. هكذا عيناها وليس قلبها !
لكل شخصية في تلك المرحلة رِجْلان تريد الركض باتجاه الحياة، بل تركض فعلًا واليدان مفتوحتان للرياح، لكنها تَعْلَقُ – مع الأيام - في حبائل الخصومة “ص244”.
وتمضي حياة كل شخصية مثقلةً بانكسارات على شكل انتصارات، تستجلب تناقضات مدهشة كالرقص والبكاء معًا! ورغم ذلك ما فتئت كل شخصية تقاتل بأدواتها المحدودة من أجل بقاء الروح، فحين ضرب “عموش” زوجته “نفلا”، ووسّع بهذا الفعل المسافة الواسعة بينهما.. اختارت هي الوقوف وسطًا بين القُرْب الذي يدفعها إليه حبُّهما القديم، والبُعْد الذي تشجعها عليه كرامتها المهدرة، وقفت في هذا “الوسط” زمنًا، وكانت توصي نفسها بألا تلمس جسده، تقول في سرّها: “لو لمسته فسأسامحه” “ص233”، لو لمسته فقط! لكنها تنحاز لاحقًا لذاتها، وتطلبه الطلاق، لتعزّز بهذا الخروج ارتباطها الروحيَّ به.
“شافي” و”عموش” من فرعين يعودان إلى أصلٍ واحد، وجدا نفسيهما – رغم الممانعة الذاتية – طرفًا في حرب لا تبقي ولا تذر، وحين داهم الوادي جوعٌ في أثر سيل، ورأى “شافي” بعينيه كيف يأكل الجوع قومه، أرسل عبده ببندقه إلى “عمّوش”، وطلب منه جزءًا من الأرزاق، مقابل رهنِ بندقه إلى حين السداد.. لحظة إنسانية عميقة تجليها الرواية هنا، تقلب بها كل ما لدينا من تصورات ظالمة عن إنسان تلك المرحلة:
يُخرج العبدُ بندق “شافي” فتجرح “عمّوش” نقوشُهُ الفضية التي يعرفها، يرى فيها تاريخ الغارات التي خاضها “شافي” وأبوه قبله، يتحسس في النقوش عشرات الجثث، لكنه انحاز دون تردّد إلى الإنسان، فردّ العبدَ إلى “شافي” ومعه البندق، ووعده بأن يرسل في الليلة نفسها نصفَ ما يملك.. ولم يكتفِ بذلك، بل حمّله كلمةً تشبه رَمْلَنا، كلمة منتشلة من أعماق إنسانيتنا المدفونة بيد التاريخ المتحيز:
“قل له: إن السداد من عسره ليسره” “ص226”.
- 3 -
في الصحراء إذن، وتحت مطر قسوتها الذي لا يتوقف، وفي وحل منطقها الضاغط، ثمة طاقة مدهشة من رهافة الحسّ، ثمة منظومة هائلة من العواطف المشبوبة.
تنتهي الرواية بلقاء “شافي” و”نفلا” بعد طلاقها من “عمّوش”، بلقاء الحبّ الذي ولد وكبر من طرفٍ واحد.. لكل منهما رحلته الشاقة، التي جعلت اللقاء تعبيراً عن الموت أكثر منه تعبيراً عن الحياة، كان لقاء بين جسدين منهكين وروحين متعبتين.. لم يعد في رصيدهما كلام: “من تحت أحزانها سَحَبتْ نَفَساً ثقيلًا والتفتتْ إليه، يدُهُ اليمنى مرتخيةٌ في حِجْرِه بسبب طلقة في حرب الحيّين، دمعة سقطت من عينه على خطوطه في الأرض جعلت فكه يرتعش، صدّتْ متظاهرةً بأنها لم ترها، وطَمَس شافي ما رسم.. الثقلُ في فكه السفلي يكاد يخلعه، زاده القليل من الكلام اختفى” “ص262”.
- 4 -
كل ما فعلته رواية “غواصو الأحقاف” هو رفع حجارة التاريخ عن إنسان تلك المرحلة، وإنقاذ ما تبقى منه..
“غواصو الأحقاف” رواية في نقد التاريخ، وما في رَحْلها شيءٌ سوى اللغة، اللغة التي تصنع من العابر فكرة، وتغوص عميقًا لتكشف لنا ما لم يكشفْه المكتفون بالأسطح.
-هامش :
تستحق هذه الرواية القراءة ..
لكنْ باللغة أيضًا!.
تحيّاتي: خالد الرفاعي