كل له تفاصيله
يتمنى الإنسان أحيانًا لو كان في مكان غيره، معتقدًا أن غيره في راحة. يتمنى الذي في المدينة لو أنه يعيش في القرية بعيدًا عن ضغوطات المدينة، حيث لا فواتير كثيرة، ولا ازدحامات، ولا مغريات تستنزف جيبه من أماكن ترفيه ومطاعم وموضة، يتخيل نفسه هادئا مستقرًا في وداعة القرية.
ويتمنى الذي في القرية لو أنه يعيش في المدينة مستمتعًا بخدماتها العجيبة، ورفاهيتها اللا محدودة، يتمنى لو أنه يعيش صخب المدينة الذي لا يهدأ، بدلًا من القرية التي يصيبها النعاس أول الليل. أحيانًا يتمنى التاجر بسبب الضغوطات لو أنه كان مزارعًا بسيطًا، يسقي زرعه ويهتم في شؤونه، يعود باكرًا إلى بيته، يجلس مع أبنائه، وينام نومًا عميقًا. غفل التاجر أن المزارع لا يخلو من ضغوطات عمله ومن مخاوفه التي لا تزول، نسي أن أسئلة المزارع تبقى حائرة دون إجابة حتى نهاية الموسم، هل ينزل المطر هذا العام؟ وإذا ما نزل فهل سيكون شحيحًا لا يكفي؟ أم غزيرًا يغرق الزرع ويميته؟ ترى.. هل أستطيع بيع المحصول وتسديد كلفة البذور والحراثة؟. المزارع نفسه كثيرًا ما تمنى لو أنه كان تاجرًا، يشتري بسعر ويبيع بسعر، عملية أسهل بكثير من الزراعة. غفل المزارع أن التاجر يحمل مسووليات لا يقل عددها عن مسؤولياته، وأنه معرض للخسارة وكساد البضاعة وتنافسية السوق وشؤون الموظفين والعمال وأزمات السيولة وأزمات السوق وتبدلاته. قال أحد الأصدقاء بأنه يتمنى لو كان سواقًا، لا يحمل مسؤوليات البيت الذي يعمل فيه، كل ما يفعله هو قيادة السيارة واستلام راتبه آخر الشهر. سألته: ما رأيك أن نغوص في يوميات سائقك، مسؤولياته في العمل كسائق. بعد دقائق وجدنا أنه يفقد من ربع راتبه بسبب المخالفات التي يرتكبها، يقطع مشاوير ثابته وغير ثابتة بشكل يومي، يقضي أوقاتًا أسير الازدحام، يعيش في قلق من فقدانه لوظيفته بسبب أخطائه التي يرتبكها، يعيش بلا أصدقاء، يعيش بعيدًا عن زوجته وأبنائه ووطنه! السائق نفسه ربما تمنى لو كان لديه بيت كبير وزوجة وأبناء وسائق، المسألة سهلة، وظيفة مدتها عدة ساعات يوميًا، وراتب يكفي المصاريف. من الطبيعي أن ينسى السائق كل ما يتحمله الموظفون من مسؤوليات ومصاريف شهرية لا تتوقف. يخطئ حسابيًا كل من يعتقد أن عمل الآخر أسهل من عمله، ولو تكشفت التفاصيل للذين يتمنون وظائف غيرهم لتراجعوا عن أمنيتهم.
وليام أوسلر: قيمة الخبرة ليست عبر الرؤية الجيدة، بل عبر الرؤية بحكمة.