2020-12-25 | 23:06 مقالات

الحقيقة العميقة

مشاركة الخبر      

هناك مَن يبدو أنه زاهدٌ، لا يحرص على مُتع الدنيا، ولا يعبِّر عن أمنياته بالحصول عليها. متواضعٌ، ودودٌ، وكثيرًا ما تسمعه يقول إن رضا الإنسان الحقيقي رضًا روحي.
بعيدٌ كل البعد عن كل ما هو مادي، يوجِّه اللوم كثيرًا إلى مَن ينعمون بمتع الحياة وجمالياتها، وينتقد حب إظهارهم ما وهبهم الله من خير، ويؤكد دون معرفة شخصية بهم أنهم لا يؤدون رسالة الإنسان على الأرض من مساعدة للفقراء، وإعانة للبسطاء.
يستخدم دائمًا في حديثه كلمات مثل العدالة، والإنسانية، والرحمة، ويكرِّر جُملًا، من أبرزها أن الحياة فانية، وأن التواضع سمة النبلاء، وأن القوة في العطاء.
عزيزي القارئ، إذا كنت تعرف، أو صادفت رجلًا بمثل هذه المواصفات، فنصيحتي لك أن تلزم الحذر منه، لأن أغلب أصحاب هذه المواصفات مفلسون ماديًّا، وما يقولونه مجرد شعارات وحسد مغلَّف بعبارات تبدو سليمة، لكن مَن ينطق بها غالبًا غير سليم، ولا يملك ما يملكونه، واختارت نفسه أن تتهجَّم عليهم بدل أن تدعو الله أن يزيد من فضله عليهم، وهو في الحقيقة لو أنه كان يملك من النعم ما امتلكوه لوجدته منغمسًا بها بطريقة فجَّة، متناسيًا كل شعاراته السابقة التي أزعج بها الناس، ولنسي كل الفقراء والبسطاء، بل ولاتَّهمهم بالكسل والجهل، كما أنه سيظهر غروره، ويدَّعي بأن ما عنده من خير، جاء بفضل ذكائه وتميُّزه، ولم يساعده أحدٌ في ذلك.
مثل هؤلاء سبق لي أن تعرَّفت على بعضهم، أول واحد منهم، صدَّقت كل ما كان يقوله، وأُعجِبت بمفرداته وسلوكه المتواضع.
كان هادئًا زاهدًا، ولم أنتبه يومًا إلى أنه كان مفلسًا ماليًّا، حتى رزقه الله، وتبدَّلت أحواله، فنسي أدبه، وتغيَّرت لغته، وظهرت قسوته المخبأة، ودبَّ فيه النشاط محاولًا أن يستثمر كل أوقاته في التلذذ بمتع الدنيا، وكأن الحياة حفلة صاخبة مدتها ليلة واحدة!
لم أطلق هذا الحكم استنادًا إلى تجربة واحدة، بل بعد تجارب مع عديد من الأشخاص، وتكوَّن عندي رأي أن الكثير من أشباه هؤلاء مجرد مفردات وشعارات لا يقصدونها ولا يطبقونها في حياتهم إذا ما أتيحت لهم الفرصة.
حتى أنا صرت لا أضمن نفسي فيما لم أجرِّبه، مثلًا هل سأكون، لو كنت قويًّا جسديًّا، مسالمًا كما أنا الآن؟ لو كنت رجلًا ثريًّا، هل سأساعد مَن هم في حاجة إلى المال؟ إجابتي بنعم ستكون مجرد كلمة، لا قيمة لها إلا عندما أنفذها، لذا يصعب عليَّ الآن الحكم على حقيقتي العميقة!