على المائدة
نصحت هيئة الغذاء بتجنب الشراء أثناء الجوع للحد من الهدر الغذائي، نصيحة ذهبية تشكر عليها الهيئة، لأن الجائع خصوصاً في رمضان يتصور بأنه سيأكل على مائدة الفطور كل ما سيشتريه، ويطالب بمائدة عريضة وطويلة، لكنه سرعان ما يكتشف بعد دقائق من تناوله الطعام بأن معدته صغيرة جداً مقابل كل أطباق المأكولات على المائدة.
تعلمت هذا الدرس بعد سنوات طويلة عندما كنت وأنا صائم أطالب بكل ما تتذكره معدتي، وحولت سفرة الإفطار إلى سمك لبن تمر هندي، ثم سُئلت عن مصير الأطباق التي طالبت بتحضيرها ولم آكل منها شيئاً! أخذ مني تعلم عدم الهدر فترة من الزمن، لكنني تحولت إلى سفير عدم هدر الطعام خصوصاً عندما أكون مع الأصدقاء في مطعم أو مدعواً في منزل أحدهم. قبل مدة شاهدت إعلاناً توعوياً ذكياً يصوّر الطعام على أنه أوراق نقدية ويظهر الذي يأكل بأنه يأكل من هذه الأوراق، وكل ما يلقيه في القمامة إنما هي نقوده التي تعب وعمل بجد لكي يحصل عليها، ثم أرسل رسالة للمشاهدين مفادها بأن الأموال التي تلقيها تستطيع أن تشتري فيها شيئاً آخر نافعاً لك أو أن تحتفظ بها لنفسك. ليس بالضرورة بأن الموائد الكبيرة والمبالغ فيها في المناسبات علامة للكرم، خصوصاً تلك التي تقدم “للشبعانين”، قد تكون طلباً لسمعة الكرم، لأن الكريم هو من يقدم للمحتاج أولاً لأنه محتاج، كما أنه يعامل صاحب الحاجة بنفس الاحترام والتقدير الذي يقدمه لغير المحتاج.
حكاية الهدر الغذائي حكاية عالمية، ومؤلمة ألماً شديداً لما فيها من تناقض عجيب، فحسب منظمة الأغذية العالمية “فاو” فإن طناً واحداً من بين كل ثلاثة أطنان طعام يتم رميها بسبب انتهاء صلاحيتها، بما فيها الطعام الفائض في الموائد الذي يرمى في سلة القمامة، في الوقت الذي يموت فيه الملايين في العالم سنوياً بسبب سوء التغذية، لأن الذين ماتوا لم يملكوا المال لشراء الطعام الذي رمي في سلة القمامة!
يحكي أحد الزملاء هذه الحكاية التي بقيّت في مخيلتي لغاية اليوم، وهي حكاية توضح اختلاف التفكير بين الناس، يقول إن أحدهم دعا والده على دعوة عشاء، فعمل الداعي وجبة عشاء كريمة وأنيقة لا تظهر فيها أية مبالغة، أكل شهي في أطباق طعام تتوسطها “الأستاكوزا”، لكنني شاهدت والدي ممتعضاً ولم يمد يده إلى الطعام إلاّ مرة أو مرتين فقط، وعندما قام ليغسل يده لحقت به وسألته عن سبب امتعاضه، فأجاب والدي الذي اعتقد بأن العشاء سيكون صحناً كبيراً فيه هضبة من الأرز وفوقها ذبيحة أو أكثر: هذا اللي عازمنا ما يستحي.. جايب لنا جراد البحر!.