أكثر
من لعبة
ما الذي تفعله كرة القدم في قلوب البشر؟ كيف توحد مشاعرهم وهم متفرقون في القارات ومتخاصمون في الاتجاهات؟ أي سر تملكه هذه المستديرة ولا يملكه العقل؟ لماذا يبكي الجنوب إفريقي أو المكسيكي أو العربي على دنماركي اسمه كريستيان إريكسون سقط على أرض الملعب وظن الجميع أنه مات؟ بينما لا يبكي سوى أهل الذين يقضون من حوادث السيارات في أنحاء العالم؟
في هذه المستديرة قوة من التأثير المباشر على الإنسان، إلى قلبه وعقله وروحه معاً، دون الحاجة لإلقاء الخطب الطويلة.. فقط ألقي بالكرة إلى أرض الملعب وسيترك سكان العالم كل شيء ويجتمعون في توقيت واحد ومشاعر واحدة لمشاهدة مباراة، وسوف يتحد الأمريكي في عاطفته مع الفيتنامي، متناسيين كل الدماء والرصاص من أجل تشجيع فريقهم الذي اتفقوا على تشجيعه، وستشاهد اثنين على أرض الملعب لا يعرفان لغة بعضهما يقفزان معاً، ويتعانقان بعد أن سجل فريقهم هدفاً، وستجد اثنين من بلدين مختلفين يواسي أحدهما الآخر بعد أن ودع فريقهم البطولة، وسيكون الفقير والغني في مركب واحد لا درجات ركاب فيه، أي نوع من الحب تصنعه كرة القدم؟ أي حزن تتركه كرة القدم؟ أي طاقة تصنعها لكي يسافر شاب آلاف الكيلو مترات من أجل مبارة كرة قدم؟ هل يفعل ذلك من أجل لقاء محبوبته؟ لا بد أنها محبوبته التي أفرحته وأحزنته، وانتصرت له وخذلته، ويعيش معها قصصاً لا تنتهي ولا تنطفي إثارتها.
مشغول ومفتون بها وهي تنتقل من جهة إلى أخرى، وفي كل اتجاه أمل أو خوف، تنتصر له، وتنتصر عليه، تعانده، وتعيد له حظوظه. كرة القدم حروب السلام، تلك التي يتعانق فيها المتقاتلون بعد انتهاء المعركة، ويعودون وأنصارهم إلى بيوتهم، لا تفارقهم ابتساماتهم، أو لحظات تذمر تنتهي بالنسيان صباح اليوم التالي، لتبدأ الحكاية من جديد.
عندما سقط الدنماركي كريستان إريكسون على أرض الملعب بنوبة قلبية توحّد العالم، وكأن إريكسون واحداً من أحبتهم، تركوا صراعاتهم وخلافاتهم في السوشال ميديا وتوحدوا في الدعاء لإريكسون، واستبدل الفنلنديون أمانيهم بالفوز على الدنمارك في المباراة إلى أمنيات بأن لا يكون قد فارق الحياة، حكايا تناقلتها وسائل الإعلام عن الدقائق العصيبة التي وضع فيها العالم يده على قلبه، وأوحى بالقوة لقلب كريستيان إريكسون، ليعود وينبض من جديد، قصص مليئة بالدموع، وأخرى قفز فيها آخرون فرحاً وهم يرونه وقد استعاد وعيه. أعاد سقوط إريكسون على أرض الملعب حقيقة أن الإنسانية موجودة في قلوب كل البشر، بغض النظر على لون أو دين، وأن الأساس هو محبة الإنسان لأخيه الإنسان، والشعور بما يشعر. يبقى أننا مدينون لكرة القدم لأنها تُظهر بلغة عالمية موّحدة جوانبنا الإنسانية المشتركة مهما أبعدتنا القارات عن بعضنا البعض.