2021-09-04 | 20:23 مقالات

البخلاء وحكاياتهم

مشاركة الخبر      

بعض صفات الإنسان لا تتغيَّر، ولا أعلم إن كان يصحُّ القول إنها جينات، تأتي مع الإنسان ضمن “باكيج”، مثل الطول والموهبة ولون الشعر. منذ اختراع الحروف والكتَّاب والشعراء والحكماء يقولون للبخيل لا تكن بخيلًا، وقد كتبوا في مساوئ البخل الكتب والأمثال التي سمعها البخلاء مرارًا وتكرارًا، لكنهم ما زالوا بخلاء!
وأعتقد أنهم مصابون بحالة من عدم القدرة على التصرف مع المال بصورة طبيعية، وهذا ما يجعلهم باقين على العهد مع صفتهم، التي يبلغ عمرها عمر الإنسان على الأرض، فلا زمنَ خلا من البخلاء، ولا زمنَ خلا من الكرماء، أو باقي الصفات الأخرى. أعرف بخيلًا فيه مواصفات ستبدو جيدةً لولا صفة البخل التي غطت على كل صفاته، فهو متحدث جيد، وماهر في حكايات الطرائف التي يصيغها عن معارفه، أو تلك التي يبتدعها من خياله. كل هذه المواصفات تتلاشى عندما يتورط في موقف، يتطلب أن يمدَّ فيه يده إلى جيبه، حينها يرتبك، ويتجمَّد، ويعبس، ويتخلص من الموقف بأي صورة كانت حتى لو اضطر إلى الصراخ والتشابك بالأيدي! المؤلم في صفة البخل أنها تلغي أي مواقف إنسانية، يتوجَّب على الإنسان أن يتخذها، لأن هدف البخيل المحافظةُ على المال وجمعه وليس استخدامه، وكما قيل: “البخل جامع المساوئ والعيوب، وقاطع المودات من القلوب”. لكنَّ البخلاء وللإنصاف دفعوا ضريبة بخلهم بأشكال مختلفة، ففي الوقت الذي يجمعون فيه المال، هناك مَن يجمع النكات والطرائف عنهم، وقد تكون الحسنة الواضحة من وجودهم أنهم صانعون حقيقيون لهذه النكات. تخيَّلوا كيف سيكون أدب الطرائف دون وجود البخلاء. يحكى أن جحا نزل ضيفًا على رجل صديق، فقدَّم له في اليوم الأول حليبًا، وفي اليوم الثاني حليبًا، وفي اليوم الثالث حليبًا، وفي اليوم الرابع جلس جحا حزينًا، فسأله صديقه: ما بِكَ يا جحا؟ فأجاب: أنتظرُ حتى تفطمني! وسُئِل بخيل: ماذا تفعل في الشتاء إذا ما اشتد البرد؟ فقال: أقترب من المدفأة. فقيل له: فإذا اشتد أكثر، ماذا تفعل؟ فقال: أقترب أكثر. فقيل له: وإذا اشتد البرد والصقيع أكثر وأكثر؟ فقال: أُشعل المدفأة.
بعض النكات التي نتداولها اليوم عن البخلاء، هي نكات أساسها من تراثنا العربي، وبعضها من كتاب “البخلاء” للجاحظ، وما حصل أن بعضهم قام بصياغتها بلهجة محلية لتكون أكثر خفة، وهذه إحدى النكات التي قد يكون بعضكم قد سمعها بلهجة محلية، لكن أساسها التراث العربي: “جاؤوا بخيلًا، وقالوا له: تبرع لنا ببعض المال لبناء سور للمقبرة، فأجابهم: سورًا؟! وهل سمعتم يومًا بميت هرب من المقبرة؟! وأراد أحد البخلاء أن يتحايل على صديقه في كلفة الطعام، فأنشد:
منك الدقيق ومني النار أوقدها
والماء مني ومنك السمن والعسلُ.
أخيرًا، أورد ما أوصى به الشافعي، ووصيته خلاصة مفيدة لكل الذين يرجون من البخلاء السماحة ومواقف الكرم:
لا ترجُ السماحة من بخيلٍ
فما في النار للظمآن ماءُ.