2021-12-11 | 21:00 مقالات

مفكرة مسافر

مشاركة الخبر      

الإقامة مدة لا بأس بها في البلد الذي تسافر إليه فيها فائدة مهمة جدًا، وبعد جولات سفر خضتها أستطيع القول بأن نظرتنا لما هو بعيد منقسم إلى قسمين, قسم سمعي تتناقله الألسن وما نقرأ عنه أو نشاهده عبر الشاشات وتأثيره علينا عائد ممن كتب أو صنع المحتوى المشاهد، وهو القسم الذي تنفذ فيه الخرافات وما هو غير صحيح، وقسم نعايشه نحن على أرض الواقع ونكتشفه ونكوّن فكرتنا الواقعية عنه.
منذ طفولتي إلى بدايات الشباب أسمع أن الأوروبيين يتركون آباءهم وأمهاتهم في دور العجزة، أي أن شباب الأوربيين (قليلين خاتمة)، ولأن هذا ما سمعته رحت أفكر في جحودهم وكيف طاوعتهم قلوبهم أن يكونوا قساة على من تربوا في أحضانهم وتنعموا في دفئ حنانهم ورحمتهم، لكن هذه الصورة سرعان ما انكسرت عندما عشت مدة في أوروبا واكتشفت عكس ذلك، وعرفت أن ما قيل لنا عن قلة خاتمة الشباب هناك تجاه آبائهم الكبار في السن مجرد أكاذيب قيلت في حقهم، وأن وجود نسبة عالية من كبار السن في دور العجزة معظمه اختياري من كبار السن أنفسهم، لأنهم يجدون الصحبة الموافقة لأعمارهم، كما أن المكان مهيأ تمامًا لاحتياجاتهم، حتى أن بعضهم يبيع منزله ويشتري شقة صغيرة في مجمع لدور العجزة، يتحصل خلالها على خدمات عالية. في بريطانيا كنت أشاهدهم بكامل أناقتهم وهم يستقلون باص النقل العام رقم 25 الذي كنت أستقله عادة في طريقي إلى مركز البلدة، العجائز بشعر مصفف ذهبي غالبًا، ويضعن أحمر شفاه ويرتدين ملابس متناسقة، لا يفوتن في مشوارهن اليومي الذهاب إلى المقهى وتبادل الأحاديث وقراءة الصحف الورقية، كبار السن من الرجال كذلك أنيقون، واحد منهم إذا شاهدته في الباص كنت أتحسر عليه، كان بملابس رثة قديمة، وكان واضحًا أن الزمن فعل ما فعله في عقله. تعلمت ألا أقدم يد المساعدة إليهم إلا في الضرورة القصوى، لأنني عندما أقمت في البلدة كنت أبادر في تقديم المساعدة لهم في حمل الأكياس إلى داخل الباص، لكنني فهمت بأنهم لا يرغبون في هذه المساعدة لأنهم قادرون على حملها ويريدون الاعتماد على أنفسهم. الكثير ممن يعيشون في دور العجزة هم ممن فقدوا شريك حياتهم. بدَّلت إقامتي في البلدة الإنجليزية فكرة أن الشباب الأوروبي لا يهتم بوالديه، وعندما أصيب جاري العجوز بأزمة قلبية أقام ابنه المتزوج والمستقل في بيت أبيه ولم يغادره حتى استعاد عافيته. ليس العرب فقط من صنعوا خرافات على الأوروبيين، يكاد يكون الأمر متبادلًا بين قارات العالم، في أمريكا ما زال بعض الأمريكان يعتقدون أن في بيت كل عربي بئر نفط، و20 زوجة!.