2021-12-27 | 20:21 مقالات

حكايات خارج الموهبة

مشاركة الخبر      

في ليلة شتائية ما زلت أتذكر دفء موقدها، قال زميلي الموهوب: أسوأ خطأ يرتكبه المرء هو العمل طيلة حياته في مكان لا يمتلكه أو يمتلك جزءًا منه..
إنه يحترق من أجل غيره، ولا يحصل إلا على معاش لمصاريفه الشهرية، وإذا ما انقطع هذا المعاش لسبب فسيجد نفسه على الحديدة أو بالقرب منها، لذلك لا بد للإنسان في وقت ما أن يعمل لحساب نفسه. لامس حديثه قناعة أخفيتها زمنًا، تحديدًا عند أول راتب استلمته، فهمت حينها أننا عمال بملابس أنيقة وبمسميات تبدو فخمة، كان الزميل جريئًا، اقترض مبلغًا من البنك وهجم على مجال عمل سمع أنه ناجح، والحاجة إليه لا تنقطع، بدأ يتأخر عن مواعيد عمله في الوظيفة، ثم بدأ أداؤه ينخفض لانشغال باله، ثم فقد مزاجه العالي الذي نعرفه. بعد حوالي سنة باع كل الأصول التي يمتلكها، خسر ما تجاوز خمسين بالمئة من رأس المال، بالإضافة إلى جهد عام كامل. في نفس المكان الذي كنا نجلس فيه قبل عام قال: إن رأيتني أعمل في غير مجال عملي فاضربني بهذه الدلة على رأسي وأشار نحوها، قلت له قد تكون فرصة جيدة لضربك، فأنا أود ذلك لسبب قديم، لكنني حسبتها رياضيًا وكانت احتمالات هزيمتي في العراك أكبر، فاكتفيت بإقناع نفسي أن الأخلاق الرفيعة هي أهم ما يملكه الإنسان. ما قاله الزميل عن تجربته هي أن تغيير مجال العمل ليس بهذه السهولة، وهي رحلة لها تفاصيلها المهارية التي لا نعرفها، كما أن تغيير المجال يعني تغيير الناس، والبيئة والعقلية، قال بأنه لم يكن يعلم بأن في هذا العالم أناس مثل الذين التقاهم. صنع تعدي الموهوبين حدود مواهبهم حكايات مضحكة للسامعين، لكنها مؤلمة لأصحابها وإن أظهروا شجاعة ونجاحًا في إخفائها. افتتح أحد المدراء العرب مطعمًا، كان المدير ذا سمعة مهنية كبيرة، لكنه عندما دخل عالم المطابخ بتفاصيله البصلية وجد نفسه في عالم آخر، يقول بأنه باع المطعم بعد عام من التعب والخسارة، أما اللحظة التي اتخذ فيها قرار بيعه المطعم فكانت عندما اضطر أن يقبّل رأس الطباخ الذي توقف عن العمل فجأة لخلافه مع أحد العاملين، بينما الزبائن ينتظرون طلباتهم!
بعض الموهوبين حتى في عالم مجالهم يجب ألّا يتعدوا حدود موهبتهم، وإن أرادوا فعليهم ألّا يدخلوا ما هو خارج عنها قبل أن يتعلموا جيدًا عن هذا الخارج، ليس كل مقدم برامج ناجح يستطيع أن يدير قناة فضائية أو إذاعة بنجاح، ولا كل شاعر مبدع يستطيع أن يدير بمهنية ملف شعر في صحيفة، ولا كل كاتب عظيم يستطيع أن ينجح إذا ما أصبح مديرًا لدار نشر، ولا كل لاعب كرة كبير بإمكانه أن يحقق البطولات إذا صار مدربًا، فكل ما هو خارج حدود الموهبة الأساسية يحتاج إلى قدرة وموهبة إضافية، ولكل موهبة ناسها، وقد يجمع الإنسان أكثر من موهبة لكنها ليست القاعدة.