ذاكرة ورؤية جديدة
* أعتقد أن الوقت قد حان للابتعاد عن أصدقائي مدةً من الزمن، والبحث عن أصدقاء جدد. السبب وراء ذلك أنهم أصبحوا يحفظون كل الحكايا التي أحفظها، أو التي حدثت معي وذكرتها لهم، فبمجرد أن أبدأ حكايةً ما حتى تراهم يقاطعونني، ويقولون لي بأدب: “سبق وأن ذكرتها لنا أكثر من مرة”.
ما يؤلمني ليس حقيقة الترهُّل المبكر لذاكرتي، ما يؤلمني حقًّا أنهم تحمَّلوا سماع الحكايا المكرَّرة، ولم يصلوا إلى مرحلة الصراحة، وإبلاغي بالتكرار إلا بعد مدة طويلة! كم كانوا يعانون، وكم كنت واهمًا عند تذكُّري حكايةً، اعتقدت أنها جديدة عليهم. لا شك أنهم أصدقاءٌ صبورون ومحترمون.
فتح اكتشافي تكرار حكاياتي باب الشك: هل كنت أكرِّر الحكاية نفسها بالأحداث والتفاصيل نفسها بكل دقة، أم كنت أزيد وأبدِّل؟ فأنا لا أتذكر! ولا يمكن لأي إنسان في الحياة أن يعيد قول حكاية ما بالتفاصيل نفسها التي ذكرها في المرة الأولى، وكأنه آلة تسجيل. هل أضفت عليها ما سيبدو أجمل وأكثر إثارة؟ هل فعلت ذلك؟ هل أضفت من عندي ما هو غير موجود في أصل الحكاية؟ لا أتذكر. لو كانت عندي القدرة على التذكر لما كرَّرت رواية حكاياتي للأصدقاء أنفسهم. لست متمسكًا بالدقة. إن كانت الحكاية التي كرَّرتها للضحك، فلا بأس، وإن كانت من الحكايا التاريخية فالزيادة هنا قد تكون إضافة. الخوف لو أنني أضفت، أو أنقصت في الحكايا الجادة، وما يتخللها من حوارات.
ما يساندني أن أصدقائي لم يتبدَّلوا في تعاملهم معي، ولم يتبدَّل مستوى اهتمامهم عند استماعهم إلي وأنا أتحدث في شأن معيَّن. لا أعلم إن كنت أكرر حكاياتي للأصدقاء أنفسهم في السنوات الأخيرة، أم أنني على هذه الحال منذ زمن طويل جدًّا؟ المؤكد أن الصورة التي يراك فيها الآخر قد لا تتطابق مع ما تعتقده عن نفسك.
* لو كان عندي رقم هاتف الفنان الكبير حسام تحسين بك لاتصلت به شاكرًا إياه على ما قاله حول مسألة التقدم في العمر وما يرافقه من تبدُّلات. قال: إن العمر الحقيقي ليس رقميًّا، بل هو الحالة التي تشعر بها. ومعنى ذلك أنك لو كنت في العشرين، وتشعر على الرغم من ذلك بأنك مثقل وبطيء، فهذا يعني أنك أكبر من عمرك الرقمي، أما لو كنت في السبعين، لكنك نشيط وتتطلع للمستقبل، وتشعر وكأنك في الثلاثين، فهذا يعني أنك في الثلاثين. لا يقل هذا الرأي أهميةً عن مستوى أداء فناننا الرائع، خاصةً أنه وافق حاجتي للاستماع إلى مثل هذا الرأي في هذا التوقيت.
* مارسيل بروست، صاحب رواية “البحث عن الزمن المفقود”، اختصر في مقولة عناء البحث عن مكان السعادة، فلا مكانَ محددًا لها “رحلة الاستكشاف الحقيقية لا تستلزم الذهاب إلى أراضٍ جديدة، بل تستلزم الرؤية بعيون جديدة”.