حبيب الأربعاء!
ـ في كلمات الأغاني ومواضيعها، يمكنني ملاحظة هذا الأمر ما بين القديم والجديد: كثرة الذّكريات ومحاسبة الحبيب والأيام في الأغاني القديمة، واختفاء ذلك فيما هو جديد!.
ـ يغنّي عبدالوهاب: “حاسبت روحي على الأيام.. اللي انقضت من حبّي معاك/ لقيتها أكثرها أوهام.. ضاعت ما بين صدّك وجفاك/ واللي اتحسب من عمري.. راح وانقضى من بدري/ ما فضلش منه غير ظلمك فيّا.. لو كنت راعيتني وعطفت عليّا.. كان ضي عيونك مافارقش عينيّا/ وما كانش كل اللي جرى..”!.
ـ أم كلثوم سيّدة هذه الأرض، أرض الملامة والعتاب وطلب الحساب: “وعايزنا نرجع زي زمان.. قول للزّمان ارجع يا زمان”!. وحتى حين تغنّي: “حسيبك للزّمن.. لا عتاب ولا شجن”، فإنها كعاشقة تكذب!. لو أنّ العشّاق في أغنياتها “سابوا” أحبّتهم “للزمن: لا عتاب ولا شجن”، لما غنّت أكثر من خمس أو ست أغنيات بالكثير!.
ـ من عجائب أسرار الرّحابنة وأغنيات فيروز، أنها تحرث زمن الحب القديم، لتزرع لنا في حكايته مقاعد جديدة نجلس عليها ونصير جزءًا من القصّة: “في قهوة ع المفرق.. في موقدة وفي نار/ نبقى أنا وحبيبي.. نفرشها بالأسرار/ جيت لقيت فيها.. عشّاق اتنين صغار/ قعدوا على مقاعدنا.. سرقوا منّا المشوار”!.
ـ الفنّانة “رباب” والتي فتحت المجال واسعًا لنوال وأحلام فيما بعد، وكانت بالنسبة لكثيرين “أم كلثوم” الخليج لفترة، وفي هذه الفترة صدّقت هي نفسها ذلك فغنّت لأم كلثوم، وكان ذلك بداية تقهقرها وتراجعها عن المركز الأول!، دار كثير من مواضيع أغانيها على نفس الحكاية: “حاسب الوقت لا تحاسبني أنا.. حاسب الوقت اللي فرّق بيننا”!.
ـ محمد عبده له الكثير الكثير من الأغنيات الضاربة على نفس الوتر، وتر العتاب وكشف الحساب: “لو وفيت وجيت يومٍ زرتني”!. كان يمكن للعاشق أن يَعِد وأن يقترب من الوفاء بمثل هذا الوعد، أو على الأقلّ أن يتم تصديقه فيه: “ليتك من الحبّ ما خوّفتني.. كان اعيش الفين عمرٍ في رجاك”!. لكنه يفتح دفتر الحساب ليكشف خسران الحبيب: “يا قليل الحظ لو طاوعتني… كان اخجّل كل بدرٍ من ضياك”!. في هذا المقطع يزيد قليلًا على كشف حساب عبدالوهاب الذي بدأنا به السّرد!. اكتفى عبدالوهاب بالتلميح: “كان ضي عيونك مافارقش عينيّا/ وما كانش كل اللي جرى.. ده.. جرى”!. محمد عبده كشف عن هول الخسارة: “.. لو طاوعتني.. كان اخجّل كل بدْرٍ من ضياك”!.
ـ من أشهر أغنيات الخليج ومن أكثرها عذوبةً وعذابًا، أغنية الفنّان الكويتي حسين جاسم: “ حلفت عمري….”!. وكذلك أغنية “آه يا جاسي أنا فيك ابتليت”. لن ننتهي فيما لو أكملنا العدّ، كُتُب لا تكفي فما بالك بمقالة؟!.
ـ ولأنّ الزّمن المعتّق كان طرفًا وعنصرًا مهمّا في أغنيات الحب القديمة، نلحظ ما يشبه تدوين اليوميّات: “يوم الأحد في طريقي.. بالصّدف قابلت واحد”!. “ليلة خميس طرّز بها نور القمر.. شطّ البحر.. نصف الشّهر”!. “ولنا بالعادة نتلاقى كل خميس”!. بل إن “فايزة أحمد” تنسى كل شيء ولا تعود تدري عن شيء باستثناء يوم الحب، وتسمّي أغنيتها “حبيب الأربعاء”: “لا تَسَلْنِي يا حبيبي كيف هذا الحب جاء/ لا تَسَلْنِي يا حبيبي أين كان البدء أين الانتهاء/ لستُ أدري.. لستُ أدري.. كلّ ما أدريه أنّي لستُ أدري.. غير أنّ اليوم كان الأربعاء”!.
ـ أغنيات اليوم لا تتمتّع بمثل هذا التّرف!. ليس لديها فيما يبدو الوقت الكافي للتعبير عن تجارب حب طويلة انتهت وحان قطاف حسراتها!. أغنيات يعرف أصحابها التّقلّبات السريعة، فلا مجال للتهديد بما كانت أم كلثوم تهدّد به: “.. دارت الأيّام عليك”!. فما أن تدور عقارب الساعة وليس الأيام، يكون الجميع في حكاية أُخرى ويتم نسيان ما قبلها!. أغنيات اليوم تكتفي غالبًا بسرد حكاية سريعة لحب حاضر، وهي لا تستغل كثيرًا حتى ميزة هذا “الحاضر” من حيث الحرارة واللّهَب، تشعر أنه حب سريع، عابر، وأنّ كل أطرافه بما في ذلك العذّال متحفّزين لترك المكان والذّهاب إلى مكان آخر وحكاية أُخرى!. حتّى المحاسبة إنْ وُجِدَت فهي سريعة مثل رتم وقتهم، وفيها من التّشفّي أكثر ممّا فيها من الاستشفاء!.
ـ المحبوب في أغاني اليوم لا يحتاج إلى عذّال لينقلب!، وهو حين ينقلب وتتبدّل أحواله لا يُثير الاستغراب والحسرة، مغنّي اليوم لا يقول: “سبحانه.. وقِدْرُوا عليك”!.
ـ “نوال” مُستثناة!. ولعلّ من أسرار تعلّقنا بأغانيها، القديمة والجديدة، سباحة الحكاية في مياه زمن كافية للغرق!. البقيّة، إلّا ما ندر، يقضون وقتًا لطيفًا على الشّاطئ!.