الحكيم الفصيح
المدقق اللغوي نعمة كبيرة لكل الكتاب والصحفيين، واعتدت في كل مرة أرسل فيها المقال أن أطلب من الزميل عمر الشهري ألا ينسى تمرير المقال على المدقق اللغوي، هكذا تظهر المقالات والأخبار بلا أخطاء لغوية أو بأقل الأخطاء اللغوية، لأن المدقق بشر يخطئ وينسى أيضًا.
في رمضان وقبل الإفطار لا أحاول التحدث مع الأصدقاء، لأنني كما يقال (ما أجمّع)، وأشعر بضبابية تلفني فلا تخرج الكلمات كما أريدها، ولكي أقرب الحالة أكثر أصبحت مثل السيد بايدن في مؤتمراته الصحفية، لكن المرء مضطر للتحدث مع أصدقائه والرد على اتصالاتهم، خصوصًا في الرد على تلك الاتصالات التي لا يتوقف صاحبها عن تكرار الاتصال، حتى تعتقد أن هناك طارئًا ما، لتكتشف لاحقًا أنه أراد السلام أو رقم هاتف أحدهم، قرَّرت عند بداية المكالمة أن أوضح أنني غير مسؤول عن الأخطاء في لفظ المفردات أو حتى عن وجودها في المكان غير الصحيح.
من هنا بدأت تتبلور عندي فكرة لو أن الإنسان لديه مدقق لغوي سريع يعدل الكلمات أو الجمل الخاطئة قبل نطقها، وأظن لو وجدت هذه الإمكانية لما وقع الكثير من الناس في المطبات والمواقف المحرجة لمجرد أنهم أخطؤوا في لفظ بعض الكلمات أو استبدلوها استبدالًا خاطئًا، وأعتقد أن الكثيرين منّا حتى وإن كانوا فصحاء وقعوا مرة على الأقل في موقف محرج، لاستخدامهم مفردات في غير محلها، خصوصًا في المناسبات والمواقف التي لم يعتد عليها الإنسان.
يقول أحد الزملاء إنه تقدم بطلب شفهي لمديره، وعندما وافق المدير قال الزميل شاكرًا: الله يخلي أمك! وحكى أحد الزملاء العرب عن ذكرياته وعصاميته في الحياة، وكيف أنه تعرض لمواقف صعبة في حياته، ومع أنه نسي بعضها إلا أنه لم ينسَ عندما كان مفلسًا ويشعر بالجوع، حينها كان مارًا في أحد الشوارع، وبدت هناك مناسبة في إحدى الصالات، كان الحل في سد جوعه هو تناول العشاء في المناسبة، تقدم نحو الباب فشاهد رجالاً في ملامح جادة..
لم يكن يعرف إن كانت مناسبة زواج أو عزاء.. اقترب أكثر ووجد نفسه يصافحهم واحدًا واحدًا وهو يردد: البقية في حياتكم! بعد دخوله الصالة تبعه أحدهم وقال له إنها مناسبة زواج، لكن جوعه كان أقوى من أن يقرر الخروج.
وهناك حكاية أخرى رواها أحد المعارف بكل شجاعة، لأن الأشخاص الذين يعترفون بوقوعهم في مثل هذه المواقف لديهم شجاعة التصالح مع النفس والظهور على طبيعتهم، يقول إنه كان مسافرًا وزوجته لإحدى الدول العربية لزيارة شقيق زوجته، في المطار سأله موظف الجوازات عن سبب الزيارة فقال: السبب زيارة زوج زوجتي! أعاد الموظف السؤال مرة أخرى، لكنه كرَّر الإجابة نفسها بكل ثقة. يقول إنه وطوال سنوات ظل يشتري الهدايا ويقدمها لزوجته، ويتغاضى عن بعض أخطائها معه، لكي لا تفضح إجابته أمام أهلها، الذين يعتقدون أن ابنتهم تعيش مع الحكيم الفصيح.