هنا لندن..

إذاعة البي بي سي توقفت عن البث، ولا أتردد لحظة واحدة من القول إن توقفها خسارة على المستمع العربي، وسوء قرار من المسؤولين الذين أوقفوها. البي بي سي نجحت منذ انطلاقتها، عندما كان أهل الحارة يجتمعون على مذياع واحد، وقبل زمن الفضائيات والإنترنت، عندما كانت أقسام الأخبار في إذاعات الدول العربية تقدم الأخبار المعلبة، بينما كانت البي بي سي تبدو إذاعة لا تتردد في نقل الحقيقة أينما كانت.
هكذا اكتسبت مصداقيتها وترسخت في ذهن المستمع العادي بأن البي بي سي لا تكذب، وأن ما تقوله هو الحقيقة التي لا تقبل الشك، وكان المستمع العارف يعلم بأنها مثلها مثل البقية لها سياستها وتوجهها وكذبها، لكنها كانت تنجح في الموازنة بينما فشلت بقية الإذاعات، إما في سوء الموازنة أو في ضيق مساحة الحرية. ساندت البي بي سي توجهات الحكومة البريطانية منذ انطلاقتها، وكان هذا هو سبب وجودها في الأساس. كانت متنفسًا للمستمعين العرب في برامج كثيرة، ولا يوجد شخص تجاوز الأربعين لا يحفظ صوت دقات بيج بين ولا نبرة أصوات مذيعيها وهم يقولون بكل هيبة: هنا لندن. مشكلة بعض المؤسسات الحكومية الإعلامية أنها بطيئة في تحركها إذا ما تطلب الوضع أن تتحرك، أن تبدو أكثر رشاقة في زمن صار الوصول للمشاهد أو المستمع يحتاج إلى السرعة والاختصار، وإذاعة البي بي سي جددت نفسها لكنه كان تجديدًا متأخرًا، ويذكرني هذا التجديد بما حدث لبعض شركات التقنية مثل أريكسون ونوكيا وكوداك، عندما لم يواكبوا التغيير بسرعة، وعندما حاولوا اللحاق كانت محاولتهم متأخرة جدًّا.
تبقى إذاعة البي بي سي في ذاكرة أجيال من المستمعين العرب، وأظن الكثيرين منا ترتبط البي بي سي في ذاكرتهم مع آبائهم، وأنا مدين لها على الكثير من البرامج التي قدمتها وقضيت معها أوقاتًا ممتعة، استمعت لحوارات فنية وثقافية رائعة، وما زال برنامج قول على قول يسكن ذاكرتي، وما زال صوت مقدمه حسن الكرمي رحمه الله يسكن أذني، كانت أصوات مذيعيها متميزة، وكنت أحب صوت علي أسعد وتقطيعاته للجُمل، وأصوات ماجد سرحان وهدى الرشيد وسلوى الجراح، توقف إذاعة البي بي سي لا يعني توقف إذاعة فقط، بل يعني تبدل الزمن.
ـ كاثرين بيتشر: إن المكتبة ليست من كماليات الحياة بل من لوازمها، ولا يحق لإنسان أن يربي أولاده بدون أن يحيطهم بالكتب.