2024-03-30 | 03:09 مقالات

كلام ويك إند

مشاركة الخبر      

لأنني مدخنٌ سابقٌ، أعرف ما يعانيه المدخنون في رمضان، لذا لا أتصل بأي صديقٍ مدخنٍ قبل الفطور، وإذا رددت على اتصال أحدهم قبل هذا الموعد، فإنني أضع في حسابي أي احتمالٍ، بأن يكون عصبيًّا، أو أنه يبحث عن مشكلةٍ، أو عن ضحيةٍ لانفعاله.
ومع أنهم يتبدَّلون بعد الفطور بشكلٍ كلي، مثلي سابقًا، ويعتذرون بعد أخذهم أول أو ثاني سيجارةٍ، لكنَّهم جميعًا لا يشبهون «أبو مبارك»، الذي يدخن ما لا يقلُّ عن 40 سيجارةً يوميًّا! حسب كلامه. وعلى الرغم من أنه إنسانٌ أنيقٌ ونظيفٌ إلا أنك تستطع رؤية «صفار أسنانه» من على بُعد عشرات الأمتار! إنه مثل مدخنةٍ، ولم تنفع أفضل العطور وأكثرها تركيزًا في حجب رائحته الدخانية.
في كل رمضانٍ يؤكد «أبو مبارك»، أنه لا يجد صعوبةً في الصيام، لا من ناحية الطعام ولا من ناحية الشراب. المشكلةُ حسب قوله في «التتن». تعيش أسرته أصعب أيامها في الشهر الفضيل، لأنه لا «يحشم» صغيرًا ولا كبيرًا! ويغضب من أتفه الأسباب! ويشتم في كل جملةٍ! ثم، ومثل عادة كثيرٍ من المدخنين بعد أن يدخنوا إثر الفطور، يعتذر من الجميع، ويشتري لزوجته وأولاده الهدايا «غرامة على سوء تصرفه معهم»!
كانت حكايات «أبو مبارك» في رمضان معروفةً في وسطه العائلي، وكان بعضهم يضيف إليها بهاراتٍ لزيادة جرعة الضحك. في يومٍ صيفي رمضاني، اتصل بي، وكنت مدخنًا حينها، فتعمَّدت ألَّا أردَّ عليه إلا بعد الفطور، لكن تكرار اتصالاته، جعلني أشكُّ في أنه يتصل لأمرٍ مهمٍّ، فرددت على اتصاله الأخير. كان غاضبًا، وبدأ بالتهكم عليَّ لأنني لم أرد على اتصالاته من المرة الأولى! قال إنني «ما خذ في نفسي مقلب»، ولو كنت في زمن الإذاعة في السبعينيات، أو الثمانينيات، لرفضت الإذاعة توظيفي بوَّابًا فيها. وأضاف أن ما أقدمه في الإذاعة، يستطيع أي شخصٍ في العالم تقديمه، لذا عليَّ أن أحترم الآخرين عندما يتصلون، وأن لا أصاب بالغرور، لأنني لا أملك شيئًا، يستدعي الغرور. كنت صامتًا أستمع حتى إنه شكَّ في أنني معه على الخط، لذا حاول أن يتأكد، فقال: ألو، فأجبته: معك يا «أبو مبارك». وعندما تأكد من وجودي معه، تابع: ظننت أنك قطعت الخط، هذا الذي ينقص.
في الحقيقة، لم أكن هذا الشخص المسالم في رمضان، لأنني كنت مدخنًا أيضًا، لكنني وجدت نفسي أستمع إلى «أبو مبارك» دون ردٍّ! وربما حكايات عصبيته وانفعالاته الرمضانية المعروفة، أسهمت في «برودي» هذا، وسهَّلت الاستماع إلى ما يقول.
قال في آخر مكالمته: أتصل بك لأنني أريد رقم فلان، هاته. أعطيته الرقم، فقال: شكرًا. لكنه لم يكن يعني ذلك. بعد ساعتين على الفطور، سمعت أصواتًا عند الباب، فتحته، فشاهدت صندوقين من التمور، وكان «أبو مبارك» وابنه، ينزلان من السيارة صندوقين آخرين. ما إن شاهدني حتى أسرع في مشيته نحوي، ووضع صندوقه على الأرض، وحضنني، وقبَّلني معتذرًا: أنت تعرف «سوالفي» في رمضان، الكل يدري أنني أصير «خبل»، لا بارك الله في الدخان! منذ سنواتٍ عدة، لم يعد هناك جديدٌ في حكايات «أبو مبارك» الرمضانية، وكل ما نتداوله عنه أصبح قديمًا. لقد رحل دون مقدماتٍ، فجأةً مات.
* الطيب صالح: أي ثمنٍ باهظٍ، يدفعه الإنسان حتى يعرف حقيقة نفسه وحقيقة الأشياء.