باستن وماجد وفينجر.. ثلاثة أدلة تنتظر قرار الإلغاء..!!
لعبة تشبه تفاصيل الحياة.. هذه هي كرة القدم.. كل شيء فيها يتقاطع مع يومياتنا ومع أحلامنا ومع واقعنا.. مع ضحكاتنا.. مع خيباتنا.. مع صورتنا، وأسرارنا، وصرخاتنا ووجوهنا الفرحة ووجوهنا الحزينة.. إنها الرياضة الوحيدة التي أخذت من الإنسان كل ما فيه من سلوكيات، وطبائع وأخلاقيات حميدة، ونزائع شريرة..!!
ولهذا وذاك، ولد قانونها في قاعات الجامعات العريقة.. لعبة خرجت إلى هذا العالم قبل ما يناهز المئتي عام، من وراء فكرة مبتكرة لأكاديميين داخل جامعة كامبريدج البريطانية، ومن بين أساساتها المبدئية وأنظمتها المترسخة معاقبة المهاجم المتمركز وراء المدافعين فيما يسمى بالتسلل.. كان يرمز لهذه الحالة حينها بخارج اللعبة.. رجل إنجليزي يدعى جون تشارلز ثرينج، والذي عمل لسنوات طوال في توحيد القانون الصارم والواضح لكرة القدم هو أول من استخدم مصطلح التسلل الصامد حتى اليوم وهذا في العام 1863.. سنوات مديدة مرت على بقاء التسلل كنهج حيوي في قانون اللعبة.. تعديلات كثيرة طالت قانون التسلل وأشهرها المشورة الإسكتلندية عام1907 والتي تقضي بعدم اعتبار المهاجم متسللًا إذا لم يتخطَ منتصف ملعب فريقه باتجاه مرمى الخصم، وهو ما اعتمده الإنجليز وبقي ثابتًا إلى وقتنا هذا.. قبل أن تطاله تعديلات مزدحمة بغية التوصل إلى صيغة مثالية، فيما يبدو أن الحل الأمثل هو الإلغاء..
إنني أعتقد يقينًا، وأرى جادًا وواثقًا، أن إلغاء قانون التسلل بشكل نهائي سيحول كرة القدم برمتها إلى لعبة لا تتعاطى مع تلك الممارسات القاتلة.. التسلل يُمكّن فريقًا متواضعًا من خنق خصم مدجج بالنجوم في مصيدة تعطل فكرة اللعبة الأساسية المتمثلة بالمهارة والمتعة والتحدي والسرعة والتشويق.. التسلل يميت الوقت.. التسلل يحول المباراة إلى سجال بين تطبيق فكرة لا تحتاج إلى أي نوع من الذكاء البشري، وبين فكرة أخرى تبحث عن الهدف وهز الشباك في وقت مطلوب منها تجاوز الوقوع في شراك الخطوط المتوازية.. التسلل يفقد اللعبة عامل المفاجأة، ويجبر المهاجم على مراقبة مكان المدافعين وتشتيت انتباهه نحو فروع لا تقوده إلى تقديم كل ما يملك من جهد وذكاء وتخطيط نحو الهدف.. التسلل لا يصنف كعملية إبداعية مكتظة بالتعقيد والحصافة، وإنما هي أقرب لحسبة هندسية لا تتوافق مع روح اللعبة الأساسية المرتكزة على تسجيل الأهداف.. ومئات من هذه الأهداف الحاسمة والصعبة ألغيت بسبب تقديرات رجل الخط فيما بيّنت الإعادة التلفزيونية بعد أن طارت الطيور بأرزاقها، أن القرار كان خاطئًا وظالمًا وجائرًا وحرم المهاجم من هدف ربما كان سيغير مجرى تاريخ الفوز والخسارة.. حتى مع ظهور تقنية الفيديو وتطبيقها، مازال التسلل محاصرًا في زوايا الجدل الذي لن ينتهي إلا بإعدام قانون التسلل والذهاب به إلى مخلفات الزمن..
بعد مونديال 1990 تدخل «فيفا» واعتبر إعادة إمساك الحارس للكرة العائدة من المدافع خطأ يستوجب العقوبة.. جاء هذا نتيجة أحداث مباراة مصر مع إيرلندا التي استحوذ فيها حارس المنتخب المصري أحمد شوبير على الكرة وقتًا طويلًا بسبب تناوب مدافعي منتخب بلاده على إعادة الكرة إليه عشرات المرات حتى انتهت المواجهة بالتعادل السلبي.. الصحافة المصرية كتبت بعدها.. شوبير الحارس الذي غيّر قانون كرة القدم.. وطالما أن «فيفا» يجاهد دومًا لجعل منتجه الباذخ سلعة خالية من الشوائب فإن إلغاء التسلل ربما يكون فتحًا جديدًا في عوالم اللعبة.. ربما المعترضون أو المستنكرون يستندون على أن التسلل يحمي المباراة من الأهداف الكثيرة الطائشة.. هذا غير صحيح بدليل أن هناك مواجهات كثيرة تنتهي دون أهداف ودون تسجيل حالة تسلل واحدة في نفس الوقت.. مباريات الحواري أيضًا كانت تلعب بطريقة منتظمة وفقًا لكل قواعد الاتحاد الدولي لكرة القدم دون تطبيق التسلل وتنتهي نتائجها أحيانًا دون أهداف أو بأهداف قليلة..
ماجد عبد الله كان أقل مهاجم تصطاده شروك التسلل.. ربما هذه إحدى ميزاته الأسطورية.. نادرًا جدًا ما كان ماجد يقف وراء المدافعين.. بل إن حكم الراية خلف البقعاوي ربط اسمه بحادثة لا تُنسى حينما احتسب ضد ماجد تسللًا أمام الهلال عام 1992 وفي الإعادة التلفزيونية اتضح أن مدافعًا هلاليًا كان قد كسر التسلل بأكثر من مترين.. لقد دخل خلف البقعاوي التاريخ بقراره واختياره.. دخل التاريخ على طريقة كافور الإخشيدي.. كافور هو الآخر دخل التاريخ لأن أبا الطيب المتنبي هجاه بقصيدة خالدة.. كان كافور حدثًا عابرًا في سجلات الأيام، ولو لم يتعرض له المتنبي بتلك اللغة الهجائية القاسية لظل قابعًا في كتب التراث الصفراء دون أن يتردد اسمه ومنصبه ووجوده.. خلف البقعاوي لم يكن اسمًا تحكيميًا بارزًا أو مهمًا.. ذلك التسلل الشهير هو وحده الذي جعله جديرًا بالذكر حين يأتي الحديث عن هذا القانون المشؤوم..
المدرب الأسطوري أرسين فينجر والذي صنع أفضل جيل لأرسنال الإنجليزي وتبوأ مواقع قيادية مهمة في الاتحاد الدولي لكرة القدم كان دائمًا ما يسعى إلى تخفيف قيود قانون التسلل.. أحيانًا كثيرة كان يريد أن يصرخ ويقول لماذا لا تلغون التسلل، لكنه ربما يخشى من حسابات هو أعرف بها.. هناك رجل واحد فقط قال رأيه حول هذه القضية بكل جدارة ووضوح واقتدار.. ماركو فان باستن أسطورة هولندا، وأعظم مهاجم في تاريخ أوروبا قالها مباشرة.. قالها تصريحًا لا تلميحًا.. طالب المسؤولين عن قوانين كرة القدم بالتفكير في إلغاء قاعدة التسلل.. قال لهم: صدقوني كرة القدم ستكون أفضل وأجمل دون تسلل.. وباستن هذا ليس مجرد لاعب كرة قدم.. كان «فيفا» نفسه يعده وجهًا يمتلك رؤية نافذة وخاصة وثاقبة، ولهذا أوكل له قيادة الإدارة التقنية في الاتحاد الدولي لكرة القدم لعدة سنوات.. وقبل قرابة خمسة أعوام وجّه باستن الذي يعده الهولنديون فارس إنجازهم الكروي الوحيد بعد الفوز بلقب يور1988، رسالة مفتوحة إلى صانعي قرار وهوية كرة القدم وقال فيها: «مازلت مهتمًا جدًا بقاعدة التسلل لأنني مقتنع تمامًا بأنها ليست قاعدة جيدة وأتمنى إزالتها لإظهار أن كرة القدم ممكنة دون التسلل وأنا مقتنع بأنها ستكون أفضل دون هذه القاعدة، فكرة القدم لعبة رائعة لكنني مازلت أؤمن بأنها من الممكن أن تتحسن أكثر وتصبح أكثر إمتاعًا، وإثارة من دون تسلل، ويجب أن نفعل ذلك».
التسلل القصة الناقصة في مسيرة كرة القدم.. في فلسفة كرة القدم.. قصة سيئة السمعة.. بدأت بفكرة داخل صرح تعليمي كبير.. استمرت وجهًا مألوفًا في دهاليز الإثارة والحروب الباردة والتناقضات المرتبكة.. لعلها تنتهي وتذهب إلى المجهول كما حدث في عملية إعادة الكرة بواسطة شوبير.. لعل كرة القدم تصغي مسامعها إلى كلمات باستن وفينجر، وتتذكر تلك الأهداف المهدرة.. تتذكر ماجد.. تتذكر خلف البقعاوي، وقصائد أبي الطيب وأيام كافور.. وتصبح المباريات مليئة بالأهداف والهجمات المفتوحة والمهارة الحية كما يحدث في حارات صنعت فيها كرة القدم بحب.. حب من طرف واحد.