2025-01-18 | 00:53 مقالات

اكتمل الدرس.. وداعًا مسفر الدوسري

مشاركة الخبر      

رحل مسفر الدوسري، ومثله مثل المختلفين، يغادرون بعد أن يكملوا الدرس لتلاميذهم: جوهر الإنسان أخلاقه الحميدة، وسيرته النبيلة تمر عبر طيبته ومحبته وتواضعه وسلامه.
رحل مسفر تاركًا لنا هذا الدرس الإنساني، وكانت عنده الشهرة الكافية طوال 40 عامًا، لكي يرى نفسه متميزًا عنا بعبقريته الشعرية، لكنه لم يفعل، لأنه كان يعيش قصائده، لا يمكنه الكتابة عن الحب، ثم لا يعطيه للجميع، ولا يمكنه الكتابة عن العطاء ولا يقدمه، ولا يمكنه الكتابة عن الإنسانية ولا يعيشها مع كل الناس.
في التسعينيات الميلادية جرى أول حديث بيني وبينه، اتصلت طالبًا موافقته ليكون ضيفًا في برنامج «ليلة خميس»، أثناء المكالمة شعرت بأني أعرف هذا الإنسان، وكأن تاريخًا من السنوات بيني وبينه.
ما أن بدأت الحلقة حتى غيّر مسفر من طبيعة البرنامج، الذي يعتمد على الحوارات الساخنة، والأسئلة الظالمة للضيوف، حوّله إلى حديقة ورود، ورسائل حب ورقية رُسمت على أطرافها قلوب حب.
وجدت مهندس الصوت وقد أطفأ إضاءة الاستوديو، ووجدت نفسي مستمعًا لا يود أن يتوقف ضيفه عن الكلام وعن الشعر.
في ذلك اللقاء، شعرت أن هناك ارتباطًا صوتيًا ولفظيًا وفكريًا بينه وبين فهد عافت، وكنت قد استضفت فهد عافت قبل لقاء مسفر بعام، بعد اللقاء بأيام، وكنت أتحدث مع أحد الزملاء عن ملاحظتي عما شعرت، فقال: إنهم أصدقاء عمر.. صداقة أرواح. أما شعورك وكأنك تعرف مسفر منذ زميل طويل فالجميع شعروا بلقائهم الأول مع مسفر بشعورك نفسه، لذا الجميع يعتبرونه صديقهم.
في اللقاء الحواري الثالث، الذي أجريته معه في دبي، شعرت أن هناك رابطًا محددًا بيني وبين مسفر، لكني لا أستطيع تحديده، لكنه موجود، ألقى مسفر قصيدة كان فيها وصف للطرقات والأشجار والمشاعر التي يولدها المكان، والحالة التي تسكن الإنسان عندما يبتعد، لم تكن قصيدة فقط، بل لوحة مرسومة بالكلمات.
في اليوم التالي، جلست مع مسفر في حديقة منزلي جلسة تاريخية بالنسبة لي، استمرت لساعات، وبقي يذكرني بطعم الشاي الداكن كلما التقينا.
أثناء دردشتنا تحدثت معه عن القصيدة.. قلت له: شعرت وكأنك تصف مدينة الأحمدي، وعبرت عن مشاعري لها، ونظرتي لها الآن من بعيد، ابتسم وقال.. فعلًا.. إنها الأحمدي! هنا أدركت الرابط الخفي، الذي كنت أتساءل عنه، وأننا ولدنا على تربة واحدة.
في الحوار الرابع، قبل 6 سنوات، سألته عن الحياة.. وعن نضوج الإنسان، أجاب أنه لا يؤمن بمسألة نضوج الإنسان.. متعة الحياة قائمة عن الدهشة، وعلى ما نتعلمه في كل يوم جديد.
نجح مسفر في الحفاظ على تشابه نقائه بنقاء قصائده، واليوم، ولأنني كبرت، أصبحت أرى الموت بمنظور مختلف، إنه حقيقة ثابتة لا يمكن تغييرها، لكن المهم هو في كيف نموت..؟ الانتصار الحقيقي في الحياة أن تموت وأنت نبيل نقي، تمامًا مثلما مات مسفر الدوسري.