المخزنجي
ـ في كل تطوّر: تَغيّر، والعكس ليس صحيحًا دائمًا!. أتحدّث عن محمد المخزنجي، أفضل كاتب قصة قصيرة بالنسبة لي بعد يوسف إدريس، و"بعد" هذه، رتبة زمنيّة وليست أدبيّة. محمد المخزنجي، في رأيي، هو أوّل، دون أن يتراجع يوسف إدريس إلى المرتبة الثانية!. كل فنان حقيقي هو أوّل!.
ـ ظننتُ أن المخزنجي تغيّر، وأن أسلوبه لم يعد رشيقًا، أو على الأقل لم يعد برشاقة زمنه الأول، حيث كانت قصصه القصيرة، قصيرة فعلًا، يمكن لك عدّ أسطر كل قصة منها، وكانت مع ذلك محقونة ومشحونة بطاقة هائلة الدفع والإمتاع. شيئًا فشيئًا، صار المخزنجي يُسهب. الكثافة تبدّدت، واللغة تباسطت وكأنها تتهرب عمدًا من تُهمة الشاعريّة!.
ـ بقيتُ أتابعه، مؤمنًا بالمجاز المخبوء في المثل الشعبي: "الذيب ما يهرول عبث"!. كدتُ أفارقه، وحين أقول إنني كدت أفارق المخزنجي، لا أعني أكثر من أنني كدت لا أجعل من قراءة أي كتاب جديد له أولويّة!. وشيئًا فشيئًا، بدأَتْ أسرار حلوة بالتكشّف!. حلم يوسف إدريس يتحقق!.
ـ رغبة يوسف إدريس التي أنهك سنواته الأخيرة فيها دون نجاح كبير، كانت في أن يجمع بين القصة القصيرة والمقالة، جمعًا يُذيب الفوارق!. وبما أنّ قصص يوسف إدريس ظلّت مليئة بالشاعريّة، وروح المسرح حاضرة فيها على الدوام، ولا تخلو من فلسفة ونقد، فقد كان يحاول جمع كل فنون الكتابة في فن واحد!.
ـ ربما، عليّ كقارئ إعادة قراءة يوسف إدريس، في تجاربه الأخيرة، وأظن أنني لو فعلت، وبأثر من المخزنجي اليوم، سأكتشف نبوغًا خبيئًا لم أتبيّنه من قبل، ذلك أنه يصعب عليّ قبول فكرة أن يوسف إدريس، أعظم عبقرية أدبية عربية مع نجيب محفوظ، لم ينجح!. فكرة أنني أنا الذي فشلت كقارئ في اقتناص المتعة أقرب إلى العقل والقلب!.
ـ الجمال الجديد يكشف الجمال القديم، يردُّ دَيْنه!، ففي كل جمال قديم تبشير بجمال سيأتي!.
ـ ما لم أكن واهمًا، فقد أشار يوسف إدريس في آخر أيامه محيّيًا نبوغ محمد المخزنجي الذي كان في بداياته. والأكيد أن المخزنجي نهض بالحلم وواصل المسيرة بطريقته الخاصة وحقق الرغبة بإنجاز لافت. قصصه الأخيرة، تحديدًا مجموعتيه: "صيّاد النسيم" و"بيانو فاطمة والبحث عن حيوان رمزي جديد للبلاد"، حضرتا كنموذج لا مثيل لبهائه في جمع كافة أشكال الأدب الكتابية في سرد واحد، خاصةً المقالة والقصة!.
ـ غدًا، بإذن الله، نلتقي مع مقتطفات من "بيانو فاطمة..".