النقد مروءة!
ـ لو حضر أفضل نقّاد الدّنيا، وتحدثوا واحدًا بعد الآخر، أو أمتعونا بتمازج أصواتهم في الكلام عن عمل فنّي ما، لكنّ أحدًا منهم نجح في حجب هذا العمل عنّا، أو منعنا من الاقتراب منه، لما أمكن لنا إقامة أي علاقة مع هذا العمل!.
ـ أقصى المُستطاع هو أن نقيم علاقة مع العلاقة!، مع علاقة هذا الناقد بالعمل!.
ـ كلام ومحاضرات وكتابات النقّاد مفيدة بشرط أن نتواصل مع هذا العمل وجهًا لوجه، وأنْ نقيم معه علاقة خاصّة!.
ـ تخيّل أنني ناقد، وناقد موهوب ومثقف وحصيف، وأنني متيّم ومعجب بعمل فني غنائي، ثم جلست أحدّثك عن تلك الأغنية التي أرى بكل معطياتي المُعتَبَرة أنها أجمل عمل غنائي، لكنك في النهاية لم تسمع الأغنية، هل يكون لكلامي مهما بلغ من دقّة ورقّة أي معنى أو فائدة فيما يخص الأغنية ذاتها؟!
ـ تخيّل أنني أمهر ناقد في الفن التشكيلي، وأنني أمتلك من العبارات اللمّاحة ما يبهر حقًّا، ومن الدراية بأدق التفاصيل ما يثير الإعجاب حقًّا، وظللت أحدثك عن لوحة ما، أصفها لك، وأحكي لك عن غايات كل خط ولون فيها، عن نظرة الطفلة في الزاوية ولماذا هي في الزاوية، عن انحناءة ظهر الرجل ولماذا هو رجل!، ولماذا يتواجد في وسط اللوحة تقريبًا، وعن.. وعن، لكنني لم أعرض لك اللوحة، بل منعتك من رؤيتها، هل يكون كلامي في أفضل حالاته ذا شأن حقيقي فيما يخص اللوحة؟!.
ـ وإنّه لشيء في النفس، يتوجّب فهمه وربما منحه درجة من التقدير، أنّ يحب الإنسان نفسه!. والناقد إنسان، ومن حبّه لنفسه أن يُظهرها، وأن يكشف عن أهمية حضورها، كل هذا مفهوم ومقدّر، غير أن الخيط رفيع، وواهن، وسهل القطع، وهو ما يحدث كثيرًا للأسف!.
ـ عدد كبير من أهل النقد، وأخصّ وأحدّد بشكل أكثر حصريّةً أهل النقد في الصحافة اليومية، يتورّطون بحبهم لذواتهم!. يكتبون عن عمل فني أو أدبي لا لنكتشفه، بل لنكتشفهم هم!. وأحياناً لنكتشفهم "فقط"!.
ـ يتسلّقون على أكتاف العمل الذي يكتبون عنه، وحتى لا تظهر جماليات العمل نفسه أكثر من ظهور نبوغهم، ينبشون بحثًا عن هفوات صغيرة وأخطاء عَرَضيّة فيه، يمرّغونها فيما يتحدثون عنه من جماليّات، ليقف العمل الفنّي عند حدّه!.
ـ وحتى إن هم لم يفعلوا، فإن كل من يظن أنه بحديثه وكتابته عن عمل، ومهما بلغ من الكشف والإطراء، أنه صار بذلك صاحب فضل على العمل وصاحب العمل، إنما أدخل نفسه في دائرة الانتفاع!.
ـ كل من قال لأحد: نسيتَ أنني قدّمتك!، أو أنكرت فضل مساعدتي لك!، أو من هذا القبيل، إنما هو منتفع!.
ـ وكلما قرأت أو سمعت كلامًا مثل هذا يوجهه أحدهم لأحدهم، لم أُعره من الانتباه إلا تخيّلي لثالثٍ خارج الحديث: مبدع تم تجاهله لأن صاحب النقد لم ير فيه نفعًا مقبلًا، وخمّن أنه سينكر ما يظنه الناقد "جميلًا" له عليه!، فلم يكتب عنه ولم يُنبّه إليه!.
ـ النقد الفنّي ليس موهبةً ولا ثقافةً ولا وعيًا ولا مقدرةً فحسب، لكنه أخلاق أيضًا، أخلاق أولًا!. وإنْ قطفنا من حدائق الأخلاق الكريمة الوردة الأكثر تعبيرًا، فهي: المروءة!. النقد مروءة!.
ـ والبيت الشهير يحضر: "تقضي المروءة أن نمدّ جسومنا.. جسرًا، فقل لرفاقنا أن يعبروا"!.