الحيازة والتوزيع!
ـ حول الرأي في الفن، نحن نلجأ إلى الكلمات، ربما، لكسب موافقة الآخر، أو حصد إجماع الآخرين، على صحّة رأينا وسلامة موقفنا ورفْعة ذائقتنا!.
ـ وربما نتكلّم لنختبر رأينا وموقفنا وذائقتنا أمام ومع أنفسنا!.
ـ فالإنسان عمومًا، لكن ليس دائمًا، يحتاج إلى تأطير مشاعره ليختبرها وليتحكّم بها، وهو يحتاج إلى اللغة لهذا الغرض أكثر من حاجته لها من أجل أي غرض آخَر حتى إنْ غفل عن هذه الحقيقة وأهميّتها!.
ـ ذلك أنه من خلال اللغة فقط يمكن لنا رؤية الموجود فينا حقًّا!. ومثلما أن المولود لا يرى وجه أمّه إلا بعد أن يخرج منها على حد تعبير طاغور، فإنّ الأمّ كذلك لا ترى وجه طفلها إلا بعد أن يخرج منها!.
ـ وما نحن إلّا آباء وأمّهات لمشاعرنا!. ولولا الحرج الاجتماعي لاكتفيت بكلمة أمّهات، فهي أدقّ وأحقّ!.
ـ ولكي نرى وجوه أحاسيسنا نحتاج إلى قوّة تُخرجها منّا، تبعدها عنّا مسافة تسمح برؤيتنا لها!. هذه القوّة هي اللغة!.
ـ لا شك أن أحاسيسنا كانت قبل الكلمات أقرب!، لكنها كانت قريبة لدرجة تمنع الرؤية!.
ـ الكلمات تؤطّر هذه المشاعر والأحاسيس، وبتأطيرها تمنحها حيّزًا وشكلًا، كتلةً ووزنًا، وملامح نسعد بما يشبهنا منها، مثلما نسعد بكونها مُشتركة مع الآخرين الذين هم من جنسنا وفصيلتنا!.
ـ الكلمات إذن، هي التي نقلت مشاعرنا من منطقة "الوجد" إلى منطقة "الوجود"!. وهي التي أثبتت خصوبتنا!. وهي التي أكّدتْ انتماءنا لجنس وفصيلة!. ومن خلالها أمكننا تحقيق التفرّد والجماعيّة معًا!.
ـ طفلك الذي له نفس استدارة عينيك وتقويسة أنفك، يشعرك بالاستثنائية، ومع ذلك فإنه وبسبب من هاتين العينين والأنف وبقية الأجزاء فإنه يشعرك بأنك من فصيلة البشر، أي ضمن المجموع!. وهذا ما تفعله اللغة، وما تقيمه الكلمات: الحيازة والتوزيع!.
ـ ولكل فن لسانه وكلامه ولغته: اللون لسان الرسم، والكتلة لسان النحت، والنغم كلام الموسيقى..
ـ لذلك ربما، وفي الفن تحديدًا: يشعر المُقلِّد بخزي جوّاني مُربِك، وبملاحقة العار له على الدوام!. الأمر الذي يعود لينقضّ على شخصيّته وطبيعته وأخلاقه وتصرّفاته حتى خارج نطاق العمل الفنّي!. تراه مهزوزًا، متوتّرًا، وحانقًا، ومُستثارًا على الدوام من أي رأي!.
ـ ذلك لأنه وفي منجزه الفني لم يكتف فقط بإنجاب طفل لا يشبهه فقط، لكن المصيبة أن هذا الطفل أيضًا يُشبه شخصًا آخر!، شخصًا محدّدًا بعينه!، جارًا أو صديقًا أو قريبًا أو زميلَ عمل أو معرفة!.