حديث تأخّر كثيرًا عن خالد الفيصل!
بشكل أو بآخر، تعامل عدد كبير من جيلي، وأنا معهم ومنهم طبعًا، بإعجاب كبير وتقدير، وامتنان ظاهر وخفي، لبدر بن عبدالمحسن. كان ذلك مُستحقًا ولا يزال وسيظل، لكنه أخفى في داخله عتمةً غير مستحقة تجاه مبدع كبير، ومجدّد حقيقي، وأستاذ أساتذة، هو خالد الفيصل!.
ـ قبل ثلاثين سنة من الآن كانت الآراء على هذا النحو: كلاهما مبدع، أو أن بدر بن عبدالمحسن هو المبدع فقط!. مع وجود عدد كبير من الشعراء والجمهور يفضّل خالد الفيصل، لكن هؤلاء المغرمين به كانوا فيما يبدو أقل قدرةً في الدفاع عنه!، ممّا قفز ببعضهم، في جلسات خاصة كثيرة، إلى الازدراء بتجربة بدر بن عبدالمحسن الشعريّة!.
ـ ولأنّ مثل هذا الازدراء كان يغيظنا، ولأنه كان من السهل تبيان سفاهته، فقد كنّا نقف هازئين بأصحاب مثل هذا الرأي، قادرين دائمًا على إيجاد كلمات ساخرة لها دويّ المانشيتات!.
ـ بعد سنين من هذا الصخب الصبياني، اكتشفتُ أننا لم نهزم سوى أنفسنا، ولم نظلم سوى مبدع كبير مثل خالد الفيصل، هذا إن كان له مثيل!.
ـ الكلمات التي كنّا ندافع بها عن بدر بن عبدالمحسن، سحبتنا، نحو التقليل من شأن واحدة من أهم التجارب الشعريّة على الإطلاق، بل تكاد تكون هي الأهم، ولولاها لما أمكن للقصيدة النبطية التقدّم أكثر، ولظلّت تدور على نفسها وحول نفسها، غير قادرة على الدخول إلى أبواب المدينة!.
ـ للأمانة، كان بدر بن عبدالمحسن نفسه أكثر المدافعين عن تجربة خالد الفيصل الشعرية، وكان الأكثر قدرة على قراءة ملامحها بفتنة خالصة. ومرّةً قال لي: في واحدة من قصائدي حاولت تقليد خالد الفيصل تمامًا!.
ـ كانت القصيدة النبطية قبل خالد الفيصل: ابنة الصحراء، طويلة وممتدة مثلها، صلبة وحاسمة مثلها، وشبه مكشوفة مثلها!. الخيّر بيّن والشر بيّن، وكذلك الصاحب والعدوّ، ولذلك كانت الأمثال والحِكَم والعِظات والعِبَر والنصائح وحتى الأوصاف معروفة سلفًا، ومتشابهة إلى حد كبير، كأنها التلال مسترسلة متشابهة، فهي ابنة الريح ذات الريح والرمل ذات الرمل!.
ـ جاء خالد الفيصل بمهارة الحذف والإضافة، وكان الحذف مدويًّا، وخطرًا، يصعب تلقّيه واستقباله لولا براعة الصياغة وتدفّق المعاني، واتّقاد الفكر!.
ـ كان الحذف مدويًّا، بقدر ما كان ضروريًّا!. خلّص خالد الفيصل القصيدة النبطية من استرسالاتها الطويلة قبل الدخول في الموضوع!. ومعه استغنت القصيدة عن كونها رسالة من الجميع للجميع!.
ـ أدخل القصيدة مباشرةً في موضوعها، وأخرجها من الزوائد فأنهاها بمجرد احتوائها على ما يكفي من المحدد والمكثّف!، فصارت أقصر بكثير مما كانت عليه من قبل، وبمنحها هذا الحجم الجديد، صارت قادرة على دخول أبواب بيوت المدينة، وجلست على وسائد ومقاعد زمنها الحاضر، زمنها الذي صار ينتجها وتنتجه!.
ـ قبل خالد الفيصل كانت القصيدة طويلة جدًا، وقد تبدأ بالسلام ثم ذكر اسم الشاعر أو التعريف به، قبل أن تدخل في موضوعها في مقدمات تطول وتقصر، إلى أن تنتهي أخيرًا بفيض وصايا أو بشكرٍ وحمدٍ مع بيت أو بيتين يؤكدان النهاية: يمكن بسهولة تذكّر عدد كبير جدًا من هذه النوعية من القصائد التي تبدأ بـ: “بديت بسم الله...”، وتنتهي بـ: “وختامها صلّوا..”!.
ـ لم تكن مسألة الحذف هذه سهلة ولا ميسّرة، والأهم أنه ما كان يمكن لها أن تنجح لولا تجربة ثريّة مدهشة ومتواصلة، مثل تلك التي قدّمها خالد الفيصل ببراعة غنائية حتى قبل أن تُغنّى!.
ـ ولذلك كانت ولا تزال أجمل أغنيات محمد عبده النبطية هي التي كتبها خالد الفيصل: كان اللحن يتقافز من الكلمات نفسها، ويوجّه الموسيقى بجاذبيّة لا مثيل لعذوبتها إلى ما تريده الكلمات لنفسها!.
ـ يمكنك أن تكتب على كل البحور التي كتب عليها خالد الفيصل، لكن أن تحتفظ كلماتك بموسيقى ونغمات ألحان أخرى، داخليّة دفينة، كتلك التي في نبض القصيدة الفيصلية، فهذا هو الصعب والمستحيل!.