«عن إيش
كنّا نتكلّم؟!»
- يبدأ الإنسان معرفة نفسه عندما يعرف أفكاره، وهو لا يعرف أفكاره إلا من خلال الكلمات. سواء انطلقت هذه الكلمات من حنجرته، أو ظلّتْ في ذهنه، فإنها تبقى كلمات، ولا يمكن لها أن تحيد عن هذه الصفة!. وإذن، فإنه لا يمكن للإنسان معرفة نفسه دون كلمات!.
- تسألني: وماذا عن الحيوانات؟! ألا تعرف نفسها؟! ألا يعرف الأسد، مثلًا، أنه قويّ بما يكفي، مثلما يعرف الأرنب أنه ضعيف، وأنه وجبة مُنتظرة لكثير من الجوارح؟! ألا يقيِّم كل منهما مراوغاته وحِيَله بناء على هذه المعارف؟!.
وأجيب: ليست هذه المعرفة، الخاصة بغريزة البقاء، هي التي أقصدها هنا. حتى الإنسان لا يحتاج إلى كلمات ليعرف حجم جسمه بالنسبة لبقيّة الكائنات والموجودات التي يتعامل معها، وهو لا يحتاج لكلمات من أي نوع ليعرف الجوع أو الجنس!.
إنما أتحدّث عن معرفة وجود: من أنا، من نحن، ما هذا، لماذا وكيف، وإلى أين؟!.
-لا أظنّ، أنه بإمكان الإنسان التفكير دون كلمات. الكلمات ليست حصانًا يمتطيه المرء لقطع المسافة والمدى فحسب، بل هي جزء أصيل من المسافة والمدى أيضًا!.
- أنا غير قادر على عجن وخلط مفردتين مثلما فعل آنشتاين في الزمكان. لكني أحسب أنّ الكلمات والأفكار شيء واحد، امتداد لبعضهما بعضًا، ويؤثّر كل منهما في الآخر بالقدر نفسه، لا انفصام، وكل منهما ينتج الآخر، الذي هو ذاته أيضًا!.
- بالكلمات يعرف الإنسان أفكاره، التي تسهم الكلمات نفسها بتشكيلها!.
- هذا ما يمكن للمشافهة أنْ تحقّقه، وهنا يحضر دور الكتابة الأعظم شأنًا: عبر الكتابة، يمكن لك معرفة معرفتك!.
يمكن لك مشاهدة معرفتك، ومراقبة تحرّكاتها، والحكم عليها، وليس فقط الحكم من خلالها!.
- عبر الكتابة أنت تطرح حجّتك وتحاججها!.
تتعرّف على مساراتها وكيفيّة تكوينها، تلك الكيفيّة المرتبطة حتمًا بالتاريخ، تاريخ الفكرة والكلمة معًا!.
ومن خلال محاججة الحجّة، فإنك تطوّرها!.
- الحقيقة أنك تطوّر كل شيء: الحجّة، وما ينقضها، والفكرة الراسخة والتأملات الجديدة فيها، تطوّر الكلمات أيضًا، وبالتالي، وهو الأهم، تطوّر ذاتك بعد اكتشافها من أوسع زاوية: الكلمة المكتوبة!.
- عبر المشافهة، فإنه يُمكن لمجموعة، بعضها أصيل وجوهري، من أجزاء الفكرة، أنْ يَفِرّ، وأنْ يسقط، ويتبدّد!. سواء كان ذلك عبر التّوسّع والاستطراد، أو بسبب الافتقار إلى الترتيب، أو لأسباب كثيرة أخرى، كالضجيج والمقاطعة وغيرهما!.
- الكتابة تحميك من كل هذا. أنت حتى لو استطردت، فإنه يظل بإمكانك متى شئت العودة إلى أصل الموضوع: لا يمكن لمن يكتب أن يتورّط الورطة التي جرّبها كل واحد منّا، مرّات كثيرة، إذ يجد نفسه فجأة، في مكان بعيد جدًّا عن مكان فكرته الأولى، وحديثه الأول، فيقول: “والله، ما أدري عن إيش كنّا نتكلّم؟! وإيش جاب طاري هذا الموضوع؟!”.