2025-06-07 | 22:15 مقالات

أزين لاعب عندك

مشاركة الخبر      

لم يغب عن ذاكرتي مشهدٌ من طفولتي حين رافقت والدي إلى سوق المواشي. كانت سيدةٌ فاضلةٌ، يقود سائقها سيارتها. وقفت السيارة إلى جانب أحد الباعة، وأنزلت الفاضلة نافذتها، وبدأت تسأله بثقةٍ صادقةٍ: «عطنا أزين خروف عندك». لم تسأل عن السلالة، ولا عن العمر، ولا عن السلامة الشرعية، بل تركت الأمر برمَّته للبائع. وبعد لحظاتٍ، أردف سيارتها بخروفٍ، لا أجد له وصفًا، ولا أظنَّها كانت تعرف ما إن كان جيدًا أو لا. لعلها لم تكن تجهل مقاصد الشعيرة، لكنَّها بالتأكيد لم تكن خبيرةً في شؤون الأضاحي، ففوَّضت السوق، ليختار عنها.
أتذكَّر هذه القصة في كل موسم انتقالاتٍ حين تدخل أنديتنا سوق التعاقدات، وتبحث عن «أزين» لاعبٍ، لا بالتحليل، بل بما يبدو لامعًا في عيون الجمهور، و«مانشيتات» الإعلام، فالأولوية لا تكون لحاجة الفريق الفنية، أو لمواءمة اللاعب فلسفةَ النادي، بل للسمعة، والصيت، والاسم الثقيل الذي يبعث شعورًا آنيًّا بالإنجاز، تمامًا كما يُبعث شعور الراحة في نفس تلك السيدة حين ترى خروفًا «سمينًا» في صندوق سيارتها.
هنا تحضر نظرياتٌ في علم الاجتماع لفهم هذه الظاهرة حيث يبرز مفهوم «رأس المال الرمزي» الذي يفحص لماذا تصبح الشهرة والهيبة والظهور المجتمعي أنواعًا من «الثروة» التي تسعى لها المؤسسات حتى لو لم تكن ذات نفعٍ حقيقي! ولعل هذا يُبرز لماذا نتبضع من دوريات النخبة الأوربية، وكأنَّها محاولةٌ رمزيةٌ لنقول للعالم: «نحن نخبة كرةٍ مثلهم». كما أن الأفراد والمؤسسات، يُقدِّمون أنفسهم أمام المجتمع كما لو أنهم على خشبة مسرحٍ، يهتمون بالصورة المعروضة أكثر من الواقع الفعلي. بهذا المعنى، يتحوَّل التعاقد مع نجمٍ جماهيري إلى مشهدٍ مسرحي، يُهدى للجمهور، حتى لو لم يكن اللاعب ملائمًا للتكتيك، أو غرفة الملابس.
لكنْ، الأمر لا يقتصر على الرمزية فقط، إذ أحيانًا، يكون وراء القرار قصورٌ مهني حقيقي! فكما أن تلك السيدة لم تكن تتفاخر، بل تجهل سبل التقييم، تتصرَّف بعض الأندية بالبراءة المُربكة ذاتها: تفوِّض وكلاء اللاعبين، أو تنساق مع ضجيج السوق، لأن أدوات التقييم الفني غائبةٌ، أو لأن القرار موزَّعٌ على أكثر من جهةٍ، لا تملك أي منها الجرأة، أو الكفاءة الكافية لتقييم الحاجة بدقةٍ!
ما الذي يحدث في الأندية؟ لماذا كل هذه الكيانات لا تنبش عن لاعبٍ في بلغاريا، أو أمريكا بدلًا من الركض نحو «الأزين» في السوق؟! هوس الرمزية طغى عليهم.
سواء كانت السيدةُ في سوق المواشي، أو نادٍ كبيرٌ في سوق الانتقالات، يُنتِج التفويض الأعمى للسوق، والركون إلى البريق بدل الفحص النتيجة نفسها: صفقة تملأ العين لا القلب، وتُرضي الانطباع لا الحاجة، وتخاطب الجمهور لا الفريق، وتحقق البلوى الشائعة المسمَّاة بـ «المكسب السريع Quick Win» لا ترك الأثر المستدام.