خمسون اشتباكا!
أتممت بهذا المقال خمسين مقالًا في فضاء الرياضة، يظل سؤال الميول حاضرًا كظلٍّ لا يغيب. يفترضون أن الكاتب حين يكتب عن نادٍ أو رياضة، إنما يكتبه بعيون المحب أو بمخالب الكاره. هذه النظرة الشعبوية تضع الكاتب دومًا في خانة الانتماء العاطفي، متجاهلة أن للكتابة، خاصة في زمن الوعي والتحليل، وجوهًا أبعد من المدرجات والهتاف.
صحيحٌ أن يولد الكاتب الرياضي من رحم الشغف. فكثيرون بدؤوا من مقاعد الجماهير، ثم حملوا الميكروفون أو القلم. لكن من غير الطبيعي أن يبقى الكاتب أسيرًا لهذا الشغف حين يتحول إلى ناقد أو محلل أو مراقب. لا أحد يطلب منه أن يتخلى عن ذاكرته الرياضية، لكن يُطلب منه أن يتحرر من تعصّبه لها.
إن مجتمع الإعلام الرياضي أمام ثلاثة اختبارات. فيأتي في المقدمة اختبار الميول. هل تقوده ميوله ليكون مدافعًا عن كيان بعينه أو مهاجمًا لآخر؟ أم يستطيع أن يضع مشاعره في مهملاته، ليكتب بحسٍ نقدي وفقًا لما تقتضيه متطلبات المهنة؟ وثانيها اختبار الاشتباك: هل يقف عند حدود النقل والتحليل، أم يملك شجاعة الاشتباك مع الظواهر الأعمق: من ثقافة الجماهير، والسياسات الإدارية، وعقلية الاستثمار، ومستقبل الرياضة؟ الاشتباك هنا لا يعني التصادم، بل الانخراط الواعي في قضايا الشأن الرياضي، حتى تلك التي تُغضب جمهورًا أو تُحرج إدارة. وثالثها اختبار المسافة. فالمسافة ليست برودًا ولا حيادًا زائفًا، بل هي القدرة على اتخاذ موقع الراصد، لا المشجع ولا الخصم. أن يكون قريبًا ليفهم، وبعيدًا ليحكم.
الكاتب الرياضي ليس مطلوبًا منه أن يحب، ولا أن يكره، بل أن يشرح ويحلل ويواجه ويكشف… وإن لزم، أن يستفز ويفكك. وإذا كان الناقد الجيد في المسرح أو السينما لا يُتهم بأنه يكره الممثل لأنه نقد أداءه، فلماذا نصرُّ على وضع الإعلامي الرياضي في هذا القالب العاطفي الضيق؟ النقد تحليل والانتقاد تنقيص. نحيا بالأول ونتحرج من الثاني. فمن يُدرك الفرق الجوهري بينهما؟
الإعلام الرياضي ليس خطبة حماسية، ولا بيان مشجع. إنما طرف ثالث يراقب الملعب والجمهور والإدارة، ويعيد رسم الصورة بلا رتوش، ويبحث عن رواية الطرف الثاني، لا أن يحمل راية الطرف الأول. نعم اشتباك مع الواقع، ومسافة عن الغوغاء، وميول مصفاة من شوائب العاطفة. هكذا يحتفظ الكاتب بقيمته في فضاء تحكمه الأصوات العالية… لا أن يكون صدىً لها، وأجره على الله.