تباريح الوجد
يشتاق للعودة إلى الماضي لعله يستعيد عنفوان البراءة وراحة البال، فقد طغت الماديات على حياته وتكاثر من حوله الأصدقاء فلم يعد قادرا على تمييز الصديق الصدوق صادق الوعد المنصف، فهو يدرك في قرارة نفسه أنه إنسان مثل غيره من الناس لكن فضل الله منحه بسطة في الرزق وكثير من الناس يحسدونه على ذلك ويظنون أنه مصدر سعادة لا يضاهيه مصدر آخر وهو في حقيقة الأمر امتحان لقوة الصبر وفولاذية الأعصاب، فمع المال تختفي راحة البال لأن الفكر يظل دائما في حالة تأهب قصوى ومن يملك المليون يرغب في المليونين ومن يملك المليار يراه مبلغاً ضئيلا ويسعى للمليارين وهكذا دواليك حتى فقد متعة التنعم بما لديه فأصبح يطمع بالمزيد بل إنه بات يشك حتى في أقرب الناس إليه فهو يراهم أحيانا أرباب مصالح ليس إلا ولو فقد ماله لمالوا عنه وذهبوا يطلبون الفتات عند آخر.. خرج من داره ذات يوم بعد أن استعار ملابس قديمة كان قد تفضل بها لأحد الخدم في قصره الفاخر وذهب إلى الطريق الأساسي وانتظر مرور سيارة أجرة خاصة وحين توقفت طلب من السائق الآسيوي النحيل أن يوصله للحي القديم الذي كان يسكن بمنزل طيني في أحد زواياه وخلال دقائق معدودة كانت السيارة تقطع الطرقات بسرعة ثابتة فالشمس لم تشرق بعد ونسيمات الصباح العليلة تداعب مفرق شعره الذي اعتراه قليل من الشعر الأبيض والناس مازال أغلبها لم يستيقظ بعد وحين وصل للحي لم يستغرق وقتا طويلا في البحث عن المنزل القديم فذاكرته مازالت تختزل في داخلها كل التفاصيل الصغيرة بحجم عمره حين كان طفلاً يمارس الركض حافي القدمين على شرايين الحارة العتيقة دون أن تتضايق من رمضاء الأرض ولا فضلاتها الحادة أحيانا وحين كانت سعادته تبلغ ذروتها حين يشاهد « سوير بنت الجيران « وهي تقف شامخة أمام منزل بيتها تبيع « العسكريم المثلج « وهو عبارة عن شراب توت مخلوط بالماء ويوضع في ثلاجة اشتراها والدها وارتمت بين أكوام عفش كثير في زاوية الحوش المعوّج غير بعيدة عن « دب الدجاج وبرج الحمام المسرول « أوقف السائق السيارة في الزقاق الضيق ونزل صاحبنا بتثاقل نحو الباب الخارجي وحين دفعه شاهد قصرا زاخرا بالذكريات ولم ينظر لكمية الخراب الذي اعتراه حتى تحوّل لمقر للقطط والكلاب الضالة فهاجت في داخله « تباريح الوجد « فأخذ يمشى الهوينى حتى وصل لركن كان يلعب فيه مع صبية « العسكريم « وجلس القرفصاء حتى غربت الشمس ولا أعلم حتى الآن هل عاد لعالمه المادي أم مكث حيث سقط رأسه إن لم يسقط أصلاً. الهاء الرابعة هبي بريحه يا هبوب الشمالي كود الجنوب ومطلع الشمس ينصاه يا ما وياما فرقتنا الليالي وعزي لمن يصفق شماله بيمناه