ثِق بصدفة القراءة
ـ بورخيس الذي نفض اللغة الإسبانية نفضًا، والذي جعل منها لغة محسودة أكثر من أي وقت مضى، بعد أن غمس ذيول طواويسه الجميلة في مياهها.
ـ بورخيس الذي قلب فكرة الترجمة رأسًا على عقب، مانحًا إيّاها هيبة الموهبة الأصيلة، مُكرمًا إيّاها عن أنْ تكون مجرّد عمل يمكن لكل من يتقن لغتين أن "يُدَلْدِل" قدميه فيهما وما بينهما: "إذا نويتَ ترجمة شكسبير، يجب أن تقوم بها بنفس حريّة شكسبير حين كتبها".
ـ بورخيس، متنبّي الأرجنتين، بما يكفي لأن يكتب الروائي "موخيكا لاينث" رسالته القصيرة لكل شاعر أرجنتيني مقبل: "لن يجديك أن تتبنّى فكرًا ما يتطلّع إلى الأمام، لأنك حتى لو كتبتَ كمًّا مهولًا، سيكون بورخيس قد سبقك إلى كتابتها".
ـ بورخيس الذي هو كل هذا وأكثر، والذي هو أعجوبة من أعاجيب القراءة وعشق الدفاتر، صاحب الزهو العجيب في مقولته الأزهى والأعجب: "فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أمّا أنا فأفخر بتلك التي قرأت".
ـ بورخيس هذا: لم تكن لديه مكتبة كبيرة أبدًا، ولم ينشغل يومًا بضرورة إتمام قراءة كتاب حتى آخر صفحة.
ـ أحبّ بورخيس القراءة كما لم يُحبّها أحد، حثّ عليها، ورغّب فيها، أسمى الكونَ مكتبة، وعلى الرغم من ذلك كان يُصرّ على أن انتقاء الكتب مسألة شخصيّة للغاية، مثلها مثل علاقات الحب.
ـ وأظننا لو أخرجناه من قبره اليوم وأمكنه الحديث لما أوصى بأكثر من هذا: ثق بصدفة القراءة. وكأنّ كل النصائح الأخرى مفرقعات وصفير ليس أكثر.
ـ عدد الكتب التي نقرأها مهم، لكن علينا تحديد معنى أهميته، إنها الأهميّة ذاتها التي تتمتع بها كلمة "واسع" حين نتحدث عن البحر، ولا شيء آخر، ذلك أنّ "واسع" لا تعني أن الصيّاد بارع.