الحارس في حقل الشوفان!
- حدثتكم، أمس، عن رواية “شحّاذو المعجزات”، ولماذا أظنها لن تبقى في ذاكرتي طويلًا، أو لماذا لم أصنّفها، حسب ذائقتي، ضمن الروايات الفخمة، مع شعوري بإمكانيّة بقاء شخصية “زينو” الفلاشي أطول من غيرها، وعجنها مع شخصيات مهمة أخرى في روايات سابقة ولاحقة!.
- ما لم أقله في مقالة الأمس هو أن رواية “شحّاذو المعجزات” ستُعجب كثيرين جدًا، ومنهم من هم أعلى مني ذائقةً ودراية بالرواية. ورغم أنني لا أحب الحديث عمّا لا أُحب!، فقد تحدثت عنها لسبب لم أذكره أيضًا: أردت، حقيقةً، أن أهيّئ القرّاء الشباب للبوح بمشاعرهم تجاه ما يقرؤون دون خجل!.
- حسنًا، اليوم أحدّثكم عن عمل آخر بمشاعر مختلفة: “الحارس في حقل الشوفان” لـ “ج. د. سالنجر”، وسأكتب: نعم، هذه رواية رائعة، وسيظل “هولدن كولفيلد” من الشخصيات التي يصعب عليّ نسيانها، بالرغم من صغر سنّه ومن حنقه على الجميع، حتى إن أكثر ما يكره من الكلمات: رائع وعظيم!، وأنه من النوع الذي فيما لو شعر بتحسّن مزاجه لاستدعى الطبيب!. بل وحتى بالرغم من أنه كذوب!.
- لا علاقة للروايتين ببعضهما البعض، ولذلك أربط بينهما!. أتخيّل عددًا مهولًا من القرّاء الشباب، الجدد على عالم الرواية، وهم يستغربون مني مثل هذا التفضيل، وهو بالمناسبة تفضيل مدوٍّ وكبير إن أردتم الحقيقة!.
- ولسوف يتعلّق كثير منكم يا أبنائي برواية “شحّاذو المعجزات” مفضّلينها بكثير على “الحارس في حقل الشوفان”، أنا واثق من ذلك!. لكني من النوع الذي يبحث في العمل الروائي عن خفايا لا يدري ما هي، تتكشف له مع كل رواية يصفها بالرائعة!. والناس فيما يعشقون مذاهب!. و”شحّاذو المعجزات” مشوّقة إلى أبعد حد!. والقراءة متعة!.
- سأحكي لكم عن أمرين فقط، من الأمور التي طارت بي طربًا، في “الحارس في حقل الشوفان”، أمرين بسيطين للغاية، وقد تصل بساطتهما لدرجة السذاجة، لكني كقارئ، أتذوّق الأعمال بهذه النكهة!.
- على لسان الصبي هولدن يأتي هذا الاعتراف مبكرًا: “إنني أكذب إنسان يمكن أن تراه في حياتك”!. هذه الجملة التي يبدأ بها الفصل الثالث، أضحكتني وأطربتني على نحو يصعب تخيّله!. وجدت فيها عبقرية ونبوغًا!. فكل ما قرأته وكل ما ستقرأه في هذه الرواية يمكنه أن يكون في حقيقته نقيضًا لما يقوله بطل الرواية!.
- الأمر ممتع حقًا: أن تقرأ حكايات صغيرة وتتخيّل غيرها!، بما في ذلك نقيضها!. أن تقرأ روايتين أو أكثر، حسب ما يتسع له خيالك من حل وربط، في رواية واحدة!. رواية من المحتمل جدًا أن لا يكون قد حدث لبطلها أي شيء مما حدث، ومن المحتمل أن يكون كل ما حدث قد وقع وحدث فعلًا!، فأن يقول لك أحدهم إنه “أكذب إنسان” تحمل في داخلها إمكانية أن يكون كاذبًا في قوله إنه كاذب!.
- جملة واحدة فعلت بي كل هذا!. غيّرت الرواية، جعلتها غير قابلة للانتهاء!. قد أكون قارئًا غريبًا، لكني أؤمن أيضًا أن كل قارئ غريب!. لا يتشابه القرّاء إلا في حبهم للكتب، وحتى هذه خوزقها “هنري ميللر” بطريقة ساحرة في كتابه “الكتب في حياتي”!.
- نعم، تسحرني العبارات التي تُخرجني من الكتاب إلى الحياة!. خذ عندك هذه الفقرة: “ضجرتُ من الجلوس على طرف البيانو فأخذتُ أرقص رقصًا إيقاعيًّا، لمجرد أن أفعل شيئًا. وأنا لا أجيد هذا النوع من الرقص ولكن الأرض كانت من الحجر وهي صالحة للرقص الإيقاعي”!.
- عند هذه الفقرة توقفت، تذكرت كثيرين!. لن تكون مبدعًا، فيما لو لم تفعل ما تحب مهما كانت صعوبته ومهما كانت الظروف غير مهيّأة له!. لا ترقص ما لم تكن تريد الرقص!. إنك لن تتميّز في شيء لا تريده ولا تجيده!. اسأل نفسك: هل هذا ما أحب، وما أشعر أنني خُلقت له، أم أنني أقوم به لأنه سهل ومتوفّر والظروف مهيّأة له؟!. الاحتمال الثاني لا يصنع منك فنّانًا!.
- فقرة أخرى، تُثمر تداعيات مختلفة لكن بنفس القوّة، فبينما كان حديث هولدن مع لويس جورمان ممتعًا عن التّنس، خدش لويس تلك المتعة، وخرّبها، بسؤاله عن ديانة هولدن:
“... كان مستمتعًا بالحديث عن التّنِس، ولكنه كان سوف يستمتع به أكثر لو أنني كنت كاثوليكيًّا”!. بالله عليكم، ألا تحفر مثل هذه الالتفاتة الروائية العبقرية، عميقًا في حقيقة كل واحد منّا، في معظمنا؟!. أتفق مع الفتى هولدن إذ يقول: “إن هذا الشيء يُسيء إلى الحديث الطّيّب”!.