السعودية والمونديال.. قصة حب بدأت بمعجزة الدوحة
كتب عنها الرحالة والمستشرقين بأنها أرض جمعت التجارة والزراعة والفصاحة والحج، حيث عرفت قديما بإسم مملكة نجد والحجاز، بينما الآن تصفها وكالات الأنباء العالمية بأضخم بلد في الشرق الأوسط، وشريان النفط والطاقة من مشارق الأرض إلى مغاربها، كلاعب ومحرك رئيسي في الأسواق البورصات العالمية من جهة، ودولة ذات ثقل سياسي واقتصادي ضمن الكبار العشرين على هذا الكوكب، إنها قصة المملكة العربية السعودية، قلب الحضارة ومهد الإسلام وقريبا ستلامس مصاف العالمية مع اكتمال تنفيذ مشاريع رؤية 2030.
تعد السعودية آخر المنتخبات العربية التي حظت بشرف المشاركة في مونديال كأس العالم، منتصف تسعينات القرن الماضي، بعد عمالقة شمال أفريقيا وطفرات الجيران العراق، الكويت والإمارات، إذ ظلت كأس العالم عصية على الصقور الخضر، حتى تحطمت هذه العقدة للأبد على يد ذاك الجيل الذي يمزح لاعبي الخبرة بمجموعة من الصاعدين، الذين أذهلوا العالم وفرضوا احترامهم على الجميع في القارة الصفراء، بفضل ما تُعرف في الإعلام الياباني حتى الآن بمعجزة الدوحة التي حدثت في أكتوبر 1993، عندما افتك المنتخب السعودي أول بطاقة آسيوية مؤهلة لكأس العالم في أمريكا، ضمن أقوى وأشرس تصفيات عرفتها القارة الصفراء في كل العصور، وكانت المرحلة الثانية بنظام الدورة المجموعة في العاصمة القطرية، بين عمالقة العصر الستة، بحثًا عن مقعدين لأكبر قارة في العالم، قبل زيادة الحصة لأربعة مقاعد ونصف فيما بعد.
بدأت رحلة تسلق جبال المونديال الشامخة، بتعادل الأخضر وصيف كأس آسيا مع البطل الياباني بدون أهداف، ثم بانتصار وتعادل أمام الكوريتين الشمالية والجنوبية على التوالي، وبينما كانت الآمال تتبخر بعد التعادل أمام العراق الرهيب في وجود الأيقونة الراحل أحمد راضي في قمة نضوجه، وطيب الذكر علاء كاظم وسحرة الوسط ليث حسين، سعيد قيس والبقية، جاءت هدية العمر من بلد الرافدين، بتعادل تاريخي مع الساموري في الدقيقة 90، ليأتي موعد الملحمة الخالدة في الأذهان أمام إيران، التي انتهت برباعية مقابل ثلاثة، ويروي عنها صاحب هدف العبور الأول سامي الجابر قائلًا لموقع فيفا: "إنها إحدى المباريات التي لا تُنسى. أعتقد بأنها كانت إحدى أهم اللحظات في تاريخ الكرة الآسيوية لأنها كانت المرة الأولى التي نبلغ فيها نهائيات كأس العالم، لا يوجد أي سعودي يستطيع نسيان تلك المباراة". فيما يطالب حمزة إدريس بتحويل ذاك اليوم لعيد وطني.
مع تغير قوانين اللعبة، باحتساب الفوز بثلاث نقاط والتعادل بنقطة واحدة، إلى جانب هدية الاتحاد الدولي لكرة القدم، بإضافة مقعد ونصف لآسيا في تصفيات مونديال القرن الماضي فرنسا 1998، عاد المنتخب السعودي من حيث انتهى في معجزة 1993، رافعا شعار "المستحيل ليس سعودي"، بقبول التحدي في مجموعة الموت جنبا إلى جنب مع المنتخب الإيراني العنيد للغاية في تلك الفترة، في أعظم لحظات أسطورته علي دائي ونجم لعبة البلاي ستشين 1 مهدفيكيا، ومعهما التنين الصين في أواخر حضوره القوي على الساحة، وبالمثل الجار الكويتي في زمن الديربيات الكبيرة، والحصان الأسود آنذاك العنابي القطري.
شهدت رحلة البحث عن ثاني ظهور مونديالي، الكثير من التقلبات والمواقف التي يصعب نسيانها، منها تكرار سيناريو الأمتار الأخيرة في تصفيات الدوحة، حين غادر المدرب البرازيلي كاندينو قبل ساعات من ملحمة إيران، وعُيّن مكانه عراب المباراة التاريخية الوطني محمد الخراشي، بيد أنه هذه المرة أقيل البرتغالي نيلو فينجادا، بطل كأس آسيا 1996، وجاء خلفه الألماني أوتوفيستر، الذي خطف اللقطة وكل شيء، بقيادة الأخضر للترشح بالتحقيق الفوز في 3 مباريات والتعادل في واحدة، وبين هذا وذاك، مر المنتخب بمنعطفات ولحظات تندرج تحت مسمى "ممنوعة لأصحاب القلوب الضعيفة"، كصرخات المعلق وضياع صوته في ردة فعله على تصدي الدعيع لركلة جزاء كريم باقري في تعادل طهران 1-1، وطرد القائد أحمد جميل أمام الكويت في خسارة الـ27 من أكتوبر 1997، وركلة جزاء خالد مسعد أمام الصين، التي تسببت في تأجيل الحسم لمباراة الجولة الأخيرة، ليشاء القدر أن تكون الدوحة بوابة ترشح السعودية لكأس العالم، بالفوز على العنابي بهدف إبراهيم سويد، الذي علق عليه المذيع بكلمة واحدة "جول جول" بأعلى صوت لنحو دقيقة.
تجدد الصراع التقليدي بين السعودية وإيران في التصفيات النهائية للمرة الثالثة على التوالي، ومن مفارقات الزمن، تكرر نفس سيناريو استبدال المدرب، بإسناد المهمة للمدرب سلوبودان سانتراش، بين ولايتي المدرب ناصر الجوهر، الذي عاد بدوره بعد التخلص من كابوس المدرب الصربي، إثر خسارة مباراة والتعادل في أخرى، ليعود الصقور الخضر تدريجيا في الصراع على صدارة المجموعة التي كانت تضم كذلك العراق، البحرين وتايلاند، إلى أن جاءت ليلة الـ21 من أكتوبر 2001، التي توقف أمامها التاريخ طويلا، لما فيها من دروس وعبر في الإدارة والتخطيط والتحضير الفني والنفسي عموما وليس كرة القدم فقط.
تلك الليلة الشبيه بليالي ألف ليلة وليلة، كانت شاهدة على نهاية غطرسة مدرب إيران، الصربي بلازيفيتش، الذي أخذ عهدا على نفسه، بتعليق رقبته على المشانق في جدة، إذا فشل في افتراس البحرين في آخر نزهة للإيرانيين في التصفيات المؤهلة لمونديال كوريا الجنوبية واليابان 2002، ليستفيق على كابوس ملعب "البحرين الوطني"، والذي امتلأت مدرجاته بحوالي 25 ألف مشجع، كأنه ملعب "الملك فهد" في قلب الرياض، متحدين على قلب رجل واحد، لضرب عصفورين بحجر واحد، كسر أنف المدرب وتقديم يد العون للشقيقة الكبرى التي استغلت الفرصة، باستعراض قوتها المفرطة برباعية على تايلاند في أول ظهور دولي لحسين عبد الغني وعبدالله الجمعان والشريدة، ليبقى الجميع على أعصابه في السعودية، إلى أن أطلق لاعب النصر السابق محمد حسين رصاصة الرحمة الثالثة في الدقيقة 90، وفي أفضل مباراة في تاريخ الحارس البحريني عبد الرحمن عبد الكريم.
في الوقت الذي اعتقد فيه الجمهور السعودي، بأن الوصول لنهائيات كأس العالم، بات أسهل من أي وقت مضى، لتطور مستوى اللعبة في المملكة منذ بداية الألفية الجديدة، بجانب التأهل الهادئ لكأس العالم ألمانيا 2006، بحسم البطاقة قبل جولتين من نهاية التصفيات الأخيرة، وزيادة الحصة الصفراء لأربعة مقاعد ونصف بعد انضمام أستراليا للقارة، جاءت النتائج عكس ذلك، بتمنع المونديال على المملكة في نسختي 2010 و2014، نتيجة تحول المنتخب إلى حقل تجارب مع عدة مدربين، منهم على سبيل المثال دوس أنجوس، جوزيه بيسيرو، فرانك ريكارد، الإسباني كارو والروماني كوزمين، وانتهت بجني ثمار الصبر على الهولندي مارفيك في الفترة بين عامي 2015 و2018.
ورغم الانتقادات اللاذعة التي كان يتعرض لها مارفيك، إلا أنه في نهاية المطاف حقق المطلوب منه، بإعادة الأخضر للمونديال في أول نسخة في عصر سيطرة "السوشيال ميديا"، وبالطريقة المفضلة للسعودية قبل 2006، بالانتظار حتى الجولة الأخيرة، بالفوز الخالد على اليابان بقذيفة فهد المولد في قلعة "الملك عبدالله"، التي أحدثت هزة أرضية، شعر بها سكان الدول المشاطئة في البحر الأحمر، وجعلت سمو ولي العهد يشير بعلامة النصر من قاعة كبار الضيوف، وسط احتفالات وفرحة عارمة داخل الملعب وفي كل شوارع المملكة، اكتملت بحفل هيئة الرياضة الضخم لتكريم أبطال التأهل الخامس، بينما هذه المرة، أتى التأهل أسرع وأقل تعقيدا من أي وقت مضى، بهدية ثمينة من اليابان بانتصارها على أستراليا بهدفين نظيفين في سيدني، قبل حتى أن نتعادل مع التنين الصيني الذي لم ينفث نيرانه في سماء الشارقة.