لا نراها!
ـ كان موظف الاستقبال محيرًا، يرد السلام بحماس وأحيانًا بفتور، ومرات كان لا يرد السلام. استغربت سلوكه، لماذا لا يرد السلام؟ أهذه أخلاق موظف استقبال في عمارة قيمتها مئات الملايين؟ كنت بعد كل مرة لا يرد فيها السلام أقول: موظف الاستقبال هو الواجهة، ويبدو أن ملاّك العمارة أخطؤوا عندما أعطوا إدارة العمارة للشركة التي يعمل فيها هذا الموظف.
كان عليهم تدريبه بشكل أفضل ومراقبة أدائه بصورة دائمة. عندما تعطل التكييف في شقتي تحولت في دقائق إلى تنور، نزلت مسرعًا إلى موظف الاستقبال وأبلغته بالمشكلة. جلست بجانبه ريثما يجري اتصالاته بشركة التصليح.أثناء ذلك كان شخصًا أو أكثر يدخل العمارة أو يخرج منها بمعدل كل دقيقة، كل منهم يلقي بالسلام على موظف الاستقبال، وكنت أرد معه السلام كوني أجلس بجانبه. بعد دقائق أصبح الوضع متعبًا من كثرة الرد على السلام، بعد دقائق أكثر وجدت نفسي لا أرد السلام، حتى أني رددت في نفسي على أحدهم: يا عمي روح!
ـ لا أذكر اسمه حاليًا. لأنه لم يكن صديقنا نحن “الشلة” التي كنا نسكن في شقة واحدة. بوصف أدق لم يرغب الزميل بصداقتنا. كنا ندعوه وكان يرفض بلا قاطعة. مع شكرًا بالكاد ينطقها. مع تكرار دعواتنا وتكرار رفضه أطلقنا عليه سرًا لقب (النفسيّة). كان زملاؤنا يزوروننا ويحضرون مناسباتنا. يوم ميلاد. وليمة عشاء، مشاهدة مباراة مهمة، عدا الزميل لم يدخل جميع شققنا التي انتقلنا إليها طوال أربع سنوات. لم نتوقف عن دعوته كل ثلاثة أو أربعة أشهر كونه كان ودودًا أحيانًا، ولا يتردد في أن يسألك إذا ما رغبت أن يحضر لك قهوة لأنه ذاهب لتحضيرها لنفسه. كان الود الذي يظهر منه بين فترة وأخرى هو الذي ينسينا رفضه السابق، لكنه يعود ليذكرنا به عندما يرفض دعوة جديدة. في العام 1998 تفاجأنا وهو يوزع الحلوى بمناسبة تخرجه من الجامعة وحصوله على الماجستير. كانت فرحته ظاهرة، يحضننا ونحن نقدم له التهنئة، كان فعلًا يريد أن يشاركنا فرحته. بعد أيام كان يجلس بالكافتيريا فجلست بجانبه، سألته: كيف استطعت أن تدرس وأنت تعمل بدوام كامل؟ أجابني بما زاد دهشتي أكثر فقال بأنه يعمل حتى في أيام العطلة الأسبوعية في مقهى عربي صغير. أي أنه يدرس ويعمل في وظيفتين طوال الأسبوع. قال: أنا مسؤول مسؤولية كاملة عن عائلتي الكبيرة، وفي الوقت نفسه أردت إكمال تعليمي. هل عرفت الآن سبب رفضي لكل دعواتكم التي كنت أتمنى تلبيتها؟
ـ عزرا باوند: الحب يعمينا عن الأخطاء، أما الكراهية فتعمينا عن الحقائق.