طبيعة الكراسي
كثيرٌ "وليس الجميع" ممَّن يتقلَّدون المناصب القيادية في مختلف المؤسسات، يركزون لا شعوريًّا على الجانب التشريفي للمنصب، وينسون جانب التكليف، إمَّا بسبب فتنة المكان وبهائه، وإمَّا بسبب الجهل المهني، وقلة المعرفة والخبرة، ما يؤدي بهم للفشل المبكِّر في مهامهم، بالتالي الإقصاء، وأحيانًا يتمُّ ذلك بعد فشل المشروعات التي من المفترض أن يشرفوا عليها، وفي كثيرٍ من الأحيان، تكون هذه المشروعات ذات بُعدٍ اقتصادي ووطني كبيرٍ، تتكبَّد خسائره مؤسساتنا العامة، وبالمحصلة ميزانية الدولة.
المؤذي حقًّا، ليس البعد المادي لفشل أي من تلك المشروعات، بل الوقت الذي يمضي خلال هذه التجارب، وهو المورد الوحيد الذي لا يمكن تعويضه مع الأسف!
الافتتان بالمنصب أمرٌ واردٌ، وقد يحدث لأي شخصٍ، لكن الكيّس، هو مَن يتعلَّم من أخطاء مَن سبقوه، ويشمِّر عن ساعديه، ويقفز إلى ميدان العمل بكل تواضعٍ، ويستمع للجميع بطريقةٍ منظَّمةٍ ومستمرَّةٍ، ويبدي الاحترام اللازم لكل ذوي العلاقة، ليستفيد من طرحهم، ويفهم الجو العام للمنظومة، وطبيعة العمل فيها، ويرمي فتنة المنصب وراء ظهره، ولا يعتمد على علاقاته الشخصية مع الآخرين لحمايته وحماية منصبه بقدر ما يعتمد على جهده، لأن الطبيعي، أن جميع الكراسي، لا تحتمل وجود شخصٍ واحدٍ عليها إلى الأبد، ومن طبيعتها أن تنكر العِشرة بلمح البصر! ولن يبقى لصاحب ذلك الكرسي بعد رحيله إلا ما قد سعى! وسعيه سيُرى في الدنيا والآخرة، وسيكون مكان ثناءٍ لحُسن عملٍ وخُلُقٍ، أو مكانَ ذمٍّ لسوء عملٍ وخُلُقٍ عند الملأ كلهم، أدناهم وأعلاهم.
الكيّس من هؤلاء، هو مَن وضع الله سبحانه وتعالى نُصب عينيه، ليس فقط بالصدق في العمل، بل وفي الصدق بمقدرته على تحمُّل المسؤولية أيضًا، والصدق فيما يقوله للناس من معلوماتٍ وإجاباتٍ، والصدق بالاستعانة بمَن يمكنه إنجاح عمله بلا أي حساباتٍ شخصيَّةٍ، والصدق بنيَّاته تجاه مؤسسته ووطنه وكل مَن يتعامل معهم.
وهو نفسه الكيّس الذي يقوم على عمله بالتجاوب مع كل مَن يتواصل معه بتواضعٍ واحترامٍ، ولا يقع في حفرة الغرور والكِبر الزائف حيث إن طبيعة الكرسي الدوَّارة، ستعيد له رشده عاجلًا أم آجلًا، لكنْ بنوعٍ من القسوة التي يستحقها مَن لا يحترم عمله، ولا يحترم الرجال.
في عام 440 قبل الميلاد، قال الفيلسوف اليوناني سقراط مقولته الشهيرة، موجِّهًا حديثه لأحد طلابه: «تحدَّث.. حتّى أراك»! وبعدها بنحو ألف سنةٍ، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «أظل أهاب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي». وختمها الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، بعد نحو 100 عامٍ من مقولة الخليفة عمر، رضي الله عنه، عندما سمع سؤال أحد الحاضرين الجدد في مجلس العلم عنده، وقد بدا على ذلك الطالب الجديد الوقار والهيبة، وكان الإمام متعودًا على أن يمدَّ قدميه أمام طلابه في مجلس العلم، لأنّ ضمَّهما يسبِّب له ألمًا في مفاصله لكبر سنِّه، لكنه كان ضامًّا لهما في ذلك اليوم احترامًا لذلك الطالب الجديد، متحمِّلًا الألم خشية أن يكون ذلك الحاضر الجديد أعلم منه، حيث كان الاحترام والتوقير بين الرجال آنذاك يُعتمد أولًا على مستوى العلم بينهم، إذ حينما سمع الإمام سؤال ذلك الضيف، وتمعَّن بمدى سذاجته وضحالته قال مقولته الشهيرة: «آن لأبي حنيفة أن يمدّ قدميه».
ولاة أمرنا، حفظهم الله، تحمَّلوا مسؤولياتهم بذمةٍ، وهمَّةٍ، ومهنيَّةٍ، وتفاؤلٍ واحترامٍ وتقديرٍ للجميع، وذلك لمصلحة الوطن، ولم يروا في مناصبهم ما يجعلهم فوق مسؤولياتهم ومصلحة وطنهم، وديدنهم في ذلك نهج ديننا القويم، ونهج مؤسِّس هذه البلاد، امتدادًا لنهج سيدي خادم الحرمين الشريفين، وولي العهد الأمين، حفظهما الله، لا سيما ذلك النهج غير المسبوق الذي ينتهجه سمو سيدي ولي العهد، حفظه الله، بهذا الصدد، الذي أصبح مضرب مثلٍ لذلك في العالم كله.