«صناعة الرياضة في السعودية بين الترفيه.. المجتمع.. والإنجاز»
تُعد الرياضة اليوم أحد المحركات الحيوية للتحول المجتمعي والاقتصادي في المملكة العربية السعودية، حيث تتقاطع أبعادها الترفيهية والمجتمعية والاحترافية مع مستهدفات رؤية السعودية 2030. ومع توسع الاستثمارات والمشاريع الرياضية، برزت الحاجة إلى تصنيف وفهم أعمق لمكونات صناعة الرياضة، لتحديد مكامن القوة والتحديات وفرص التطوير. وفي هذا السياق، يمكن تقسيم صناعة الرياضة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، لكل منها خصائصه وأهدافه وإشكالاته.
أولًا: الرياضة الترفيهية ذات البُعد الاقتصادي:
تركّز هذه الفئة على تنظيم واستضافة الفعاليات الرياضية العالمية الكبرى، مثل سباقات السيارات بمختلف أنواعها، وبطولات الجولف والتنس، والملاكمة والمصارعة، وغيرها من الفعاليات ذات الطابع الترفيهي. والهدف الأساسي منها لا ينصبّ على تحقيق إنجازات رياضية وطنية بقدر ما يتمثل في تعزيز صورة المملكة كمركز عالمي للرياضة والترفيه، وتحقيق مكاسب اقتصادية وسياحية وسياسية.
ورغم ما تحققه هذه الفعاليات من زخم إعلامي وحضور جماهيري عالمي، إلا أن المشاركة الفعلية للكوادر الوطنية في تنظيمها لا بد أن يكون له حضور أقوى في هذه الأحداث، حيث إن مالكيها الرئيسيين يعتمدون بشكل شبه كلي على فرق أجنبية متخصصة تتولى الإشراف والتنفيذ، ولا نرى أي من كوادرنا الوطنية تعمل بالعمل التنظيمي الرئيسي، حتى ولو كمتدربين، باستثناء عملهم في فرق الضيافة وإدارة الحشود. وبالرغم من تحقيق هذه الفعاليات لمستهدفات وطنية هامة، تتعلق بوضع المملكة على خارطة الدول التي تستضيف مثل هذه الأحداث العالمية، إلا أننا لا بد وأن نطرح تساؤلات مهمة حول مدى نقل الخبرات فعليًا إلى السوق المحلية، وجدوى هذه الفعاليات على المدى الطويل في بناء صناعة رياضية وطنية مستدامة.
ثانيًا: الرياضة المجتمعية والتنمية الصحية:
تُعد الرياضة المجتمعية الركيزة الأساسية لنشر الثقافة الرياضية، وتحفيز مختلف شرائح المجتمع على تبني نمط حياة صحي ونشيط. ويشمل ذلك توفير البنية التحتية الرياضية القريبة وسهلة الوصول، وإطلاق المبادرات التي تعزز من ممارسة الرياضة في الأحياء والحدائق والمدارس والأماكن العامة.
ورغم الأرقام الرسمية التي تشير إلى وصول نسبة ممارسة الرياضة في المجتمع السعودي إلى 48٪، إلا أن هذا الرقم بحاجة إلى مراجعة دقيقة، خصوصًا فيما يتعلق بمنهجية جمع البيانات، وطبيعة العينة، وجنسها، وجنسيتها، وفئاتها العمرية، وتوقيت وفترة تنفيذ الدراسة، يب وما هي الجهة البحثية المشرفة عليه. ذلك لأن مثل هذه الأرقام تؤثر بشكل مباشر على قرارات المستثمرين في القطاع، وعلى توجهات الدولة في تخصيص الموارد وتوجيه السياسات. وهناك حاجة ملحة إلى نشر بيانات واضحة وشفافة تمكّن المعنيين من البناء عليها.
ثالثًا: الرياضة التنافسية والإنجازات الأولمبية:
يمثل هذا القسم القمة في الهرم الرياضي، ويعكس فعليًا مستوى الاحتراف الرياضي والتطور الذي وصلته الدول في المجال الرياضي. وقدر هذا القطاع، أن أداءه يُقاس بالنتائج والبطولات والميداليات، خصوصًا في الألعاب الأولمبية والمسابقات القارية والعالمية.
ولا تزال الرياضة السعودية في هذا المجال تعاني من فجوة كبيرة مقارنة بدول الخليج والدول العربية الأخرى. ويكمن التحدي الرئيسي في غياب الاستراتيجية طويلة المدى، وتعدد الجهات المتدخلة، وافتقار المواهب الشابة إلى بيئات تطوير حقيقية. ومن المعروف أن بناء أبطال أولمبيين يتطلب استثمارات تبدأ من الطفولة، وتتطلب رؤية تمتد لـ15 إلى 20 عامًا حتى تبدأ الثمار بالظهور. وبالتالي، فإن أي عمل جاد يجب أن يبدأ الآن، وفق أسس علمية واستراتيجيات متكاملة تشمل جميع عناصر منظومة الإنجاز: من اكتشاف المواهب، إلى التدريب، إلى الدعم النفسي والتغذية والرعاية المتكاملة. وإلا سنستمر كما نحن، في المرتبة الـ 12 أولمبيًا بين الدول العربية، متفوقين على السودان والعراق وجيبوتي وليبيا وفلسطين واليمن والصومال وجزر القُمر وموريتانيا، وتتفوق علينا لبنان والإمارات والكويت والأردن وسوريا والبحرين وقطر، ودول شمال إفريقيا طبعًا.
صناعة الرياضة السعودية اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تستمر في التركيز على الجانب الترفيهي المبهج والذي وبالرغم من تحقيقه لمستهدفات هامة اجتماعيًا وسياسيًا، قد يبدو مؤقتًا في ظل اعتماده على منظومات دولية خارجية، أو أن تسعى إلى التوازن بينها وبين النمو المجتمعي، وتحقيق الإنجاز الرياضي الحقيقي. والتوازن بين هذه الأبعاد هو ما يصنع «الصناعة الرياضية الحقيقية»، ويضمن الاستدامة والتأثير العميق. ولتحقيق ذلك، لا بد من مراجعة السياسات، وتعزيز الحوكمة، وضمان المشاركة الفعلية للكوادر الوطنية، وبناء منظومة رياضية متكاملة تنطلق من القاعدة وتستهدف القمة، ويعمل عليها قياديون رياضيون حقيقيون، مارسوا الرياضة ودرسوها وعاشوها وعملوا بها، وفهموا لغتها وسياساتها وجميع معادلاتها.