علاج
وكسر سياج!
- أثناء الكتابة، يتمرّن الفكر!. فكر الكاتب نفسه يلتقي بنفسه في لحظة فارقة، لحظة وضْع الكلمة وتتبّع مسارها في الكلمة التي تليها!. المشافهة لا تفعل ذلك، فإنْ هي فعلت فعلى نحو لا يُمكِن مقارنته بالكتابة، حيث الكلمة السابقة في المكتوب لا تُنسى ولا يُصيب احتمالاتها وطاقتها ضمور!.
- الكلمة في الكتابة تبقى حاضرة حتى بعد كتابتنا “وقراءتنا” لها وتخطّينا لسطرها!. تظل مؤثِّرَة في كل ما بعدها من كلمات، ويُمكن الرّجوع إليها واقعًا وخيالًا، غَرَضًا وعَرَضًا، تحالفًا وتخالفًا!. هي بذلك سيَّدة الحذف والشَّطب وتغيير المسار، ولكنها باقية!.
- في المشافهة، وخاصةً فيما لو كانت حديثًا مع شخص آخَر؛ وهي غالبًا كذلك، يحرص المرء، قصْدًا وسهوًا، على قيادة الحديث بالاتّجاه المُناسِب له. أمّا في الكتابة فإنّ المُعادَلة تنقلب والموازين تتغيّر، فالمكتوب هو الذي يقود الكاتب بالاتّجاه الذي يريده!. وكلّما كان الكاتب أقلّ حرصًا على الانتصار في هذا الصّراع، انتصر!.
- في المشافهة، الآفاق ضيِّقَة بالضّرورة، حتّى لو كنّا نُجالس أقرب أحبّتنا إلى قلوبنا وأكثرهم مدعاةً لراحة نفوسنا!. يُمكِن إرجاع ذلك إلى سبب مهم: في المشافهة، والتي هي في معظم أحوالها حديث مع آخر، أو “آخرين”، كلماتنا لا تنفتح إلّا على هذا الآخر، لا تتواصل إلّا معه ولا تكون مهمّة إلّا بوجوده وبقدر اهتمامه بها وفهمه لها، وهذا يتطلّب تنازلات أو تفاهمات بما يقبل المصافحة ويديم المصالحة، بمعنى أنّ أحدنا لن يستخدم كلمةً بعينها، مهما كانت أهمّيتها، فيما لو كان متأكّدًا من أنّ الآخَر، شريك المحادثة، لم يسمع بها من قبل ولا يعرف لها معنى، أو أنّ لها عند هذا “الشّريك” معنى ودلالة مختلفتين تمامًا!. في مثل هذه الحالات، نتراجع عادةً؛ نتنازل، ونسعى لاختيار كلمة “مُشترَكَة” مفهومة ومقبولة من الطّرفين، حتّى لو كانت أقل دِقَّةً وطاقةً ممّا يجب!. الأمر الذي يعني أنّه وكلّما تحدّث أحدنا “مشافهةً” مع الآخرين، تَاهَ المُرَاد، وشُوِّهَ المعنى، بنسبة محكومة بعدد من نتوجّه لهم بالحديث!. كلّما كثروا كلّما زاغ وانحرف!. نسبة طرديّة طاردة حقًّا!.
- أحيانًا، يكون لمكان المحادثة دور في تغيير بعض الكلمات واستبدالها بغيرها. سوف يكون الأمر مثار تندّر فيما لو تحدّث أحدهم مثلًا عن “ملحمة” أدبيّة، وكرّر كلمة “ملحمة” هذه أكثر من مرّة، وكان الحديث يجري في مكان لبيع اللحوم، أي في “ملحمة”!.
- في الكتابة، وحتّى حين يكون مُضمرًا في نوايانا، نشر ما نكتب فيما بعد، شريطة أن لا نكون تجارًا أو معلنين بوقاحة تامَة مباشِرَة، فإنّنا نتعامل مع أنفسنا ونفكّر بحبر مقروء، نفكّر في ذواتنا ونتحاور معها، فلا حاجة لاستبدال كلمة بأخرى أقلّ قيمة وأبهت دلالة، بل على العكس، يجد أحدنا نفسه بحاجة لتغيير الكلمة إذا أحسّ أنّها ذاوية، هشَّة، منخفضة الطّاقة والحيويّة!.
- آفاق الكتابة أرحب بكثير، وتزداد رحابةً، لأنّ في عملية الكتابة نفسها رياضة تفكير نُمارسها تلقائيًّا، ونتطوّر فكريًّا بتطوّر كلماتنا، ونُثمر بحسب خصوبة الكلمات ذاتها!.
- لو كنتُ مُوصِيًا، لأوصيتُ بضرورة ممارسة الكتابة. ليس بالضرورة للنشر. كتابة خواطر، مذكّرات، يوميّات، سيرة، رسائل إلى لا أحد أو إلى من لن يعد بإمكانه قراءتها!. إنها رياضة فكرية مهمّة ومسلّيَة، وذات منافع ياما: علاج، وكسر سياج، ومَن يدري ماذا بعد؟!.