فنان
قبل منتصف الليل!
اعتدت منذ زوال جائحة كورونا على استغلال الإجازة الأسبوعية في رؤية صديق من الأصدقاء القدامى، وفي كل فترة أتَّصل بأحدهم، وأطلب لقاءه. ما يدفعني إلى ذلك الشوقُ، وحقُّ الصداقة، وفي بعض الأحيان حقُّ “العِشرَة”.
اليوم، بإذن الله، سألتقي الصديقَ الذي طالما غنَّينا معًا في طرقات لندن. كنا نتنقَّل مشيًا على الأقدام مسافات طويلة دون الشعور بالتعب. نؤلف الكلمات، ونلحِّن ما نألفه ونغنيه. وقد يصف أحدٌ ما كنا نفعله من غناء في الطرقات بـ “العيب”، ولا أختلف مع مَن يرى هذا الأمر، فالغناء في الأماكن العامة لا يليق، لكن أصواتنا كانت منخفضةً إلا عندما نتعمَّق في الانسجام، فتعلوا أحيانًا. كنا نتسلَّى بما نحب، واكتشفتُ بعد سنوات أن هوايتنا تلك كانت مبنيةً على أساس حقيقي، فصديقي أصبح شاعرًا وملحِّنًا غنائيًّا، وقدَّم أغنيات ناجحة، أمَّا أنا، فكتبت بعض الأغنيات، ولحَّنت أجزاءً منها دون أن أكتب اسمي على الكلمات، أو الألحان.
تركنا كتابة الأغنيات دون أن نحدِّد سببًا لذلك! ربما زاد اهتمامنا بمجال آخر. مرَّت السنوات، ونسينا كل تفاصيل تلك الطرقات، وما كنا نغنيه، ما عدا طريق شارع السفراء المحمي من الشرطة الإنجليزية، إذ كان يسكنه كثيرٌ من السفراء في منازل كبيرة. الشارع واسعٌ، ومليءٌ بالأشجار العملاقة، ويقع بالقرب من “هاي ستريت كينزنجتون”. كانت الساعة تتجاوز الـ 12 ليلًا، والهواء نسيمه منعشٌ، فانسجم صديقي، وبصوته الجميل راح يُسمعني لحنه الجديد الذي تخيَّل أن تغنيه سميرة سعيد! ولأنه موهوبٌ، كان يعرف أن سميرة قادرةٌ على الغناء بطبقات عالية، وأخذ يؤدي مقطعًا من الأغنية بطبقة صوتية عالية دون أن ننتبه للمنازل التي إلى جانبنا، أو الوقت المتأخر. بعد نحو 50 مترًا، وحينما كان صديقي يكمل غناءه، اقترب منَّا شرطي، وبدا أنه يقصدنا، فتوقف صديقي عن الغناء. قال الشرطي والابتسامة تعلو وجهه: لا أفهم ما الذي تقوله الأغنية، لكنها أغنيةٌ جميلةٌ، وصوتك جميلٌ، أرجو ألَّا تغني هنا في مثل هذا الوقت المتأخر، وفي المرة المقبلة لو غنَّيت قبل الـ 11 مساءً، سأكون سعيدًا بالاستماع إليك. شعرنا بخجل شديد، فاعتذرنا منه، ومضينا بصمت. لم ننسَ لطافة الشرطي معنا، واستغلَّ صديقي الموقف، وأصبح يقول لبقية الأصدقاء إن الشرطة الإنجليزية معجبةٌ بصوته وألحانه، ودعوه للغناء لهم قبل الـ 11 مساءً، ثم أشار بيده نحوي قائلًا: وأحمد شاهد على ذلك!